فيما تعزز المؤشرات الراهنة التقديرات المرتبطة بارتفاع أسعار الفائدة لفترة أطول، ارتفعت العوائد التي يتعين على الحكومة البريطانية دفعها، وذلك مع المستويات القياسية التي تشهدها سندات المملكة المتحدة لأجل 10 سنوات.
ينعكس ذلك بشكل مباشر على اقتصاد البلاد الذي يواجه ضغوطات متزامنة، فيما لا تزال معدلات النمو المحققة في النصف الأول من العام الجاري أقل بنسبة 0.2 بالمئة عما كان عليه قبل الجائحة، وبما يضع لندن في مرتبة متأخرة ضمن الاقتصادات المتقدمة الكبرى.
وتواجه المملكة المتحدة مجموعة من العوامل التي تسفر عن ضغوطات واسعة المدى على الاقتصاد، بداية من جائحة كورونا ومروراً بالحرب في أوكرانيا وأزمتي الطاقة والغذاء، ووصولاً إلى التوترات القادمة من الشرق الأوسط وانعكاساتها المحتملة في ضوء السيناريوهات التي تطل برأسها.
وبينما تشترك بريطانيا في ذلك مع مختلف دول القارة العجوز، إلا أنها تتفرد بالإشكالات التي عرفتها بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتداعيات البريكست على الاقتصاد البريطاني.
ارتفاع السندات
وبحسب تحليل لـسكاي نيوز البريطانية، فإن "سندات المملكة المتحدة لأجل 10 سنوات تقترب من أعلى مستوى لها منذ 15 عاماً.
- تقترب تكلفة اقتراض الدولة في المملكة المتحدة من أعلى مستوياتها منذ 15 عاماً، وهي مستويات لم تشهدها البلاد إلا مرتين فقط منذ الأزمة المالية العالمية.
- ارتفع المبلغ الذي يتعين على حكومة المملكة المتحدة دفعه (العائد) لاقتراض الأموال لمدة 10 سنوات من خلال سنداتها القياسية لمدة 10 سنوات (المعروفة باسم gilts) إلى أكثر من 4.7 بالمئة نهاية الأسبوع الماضي.
- لم يتم الوصول إلى هذا المستوى المرتفع إلا مرتين فقط منذ انهيار العام 2008، وكلاهما في أغسطس من هذا العام. وفي إحدى تلك المناسبات، تجاوز العائد 4.75 بالمئة.
- بلغ العائد على السندات لأجل 30 عاما 4.69 بالمئة يوم الجمعة، بينما وصل العائد على السندات لأجل 30 عاماً في وقت لاحق إلى أعلى مستوى له منذ العام 1998، كجزء من تحرك عالمي أوسع نطاقاً بشأن المخاوف بشأن التضخم الثابت وتصاعد التوترات في الشرق الأوسط.
يأتي ذلك في وقت ارتفع فيه العائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات فوق 5.0 بالمئة الاثنين، ليصل إلى مستوى يوليو 2007 الذي حاول لفترة وجيزة ملامسته الأسبوع الماضي.
- تعتبر السندات وسيلة رئيسية تمكن البلدان من الوصول إلى الأموال لتمويل النفقات وتكون بمثابة سندات دين.
- ومع انخفاض تكلفة السندات، ربما مع قيام المستثمرين ببيع السندات، فإن المعدل الذي يتعين على الدول أن تدفعه لاقتراض المبالغ يزداد.
- وتعني العوائد المرتفعة أن الاقتراض يصبح أكثر تكلفة، الأمر الذي يعقد المشهد بالنسبة للحكومات التي تأمل في زيادة الإنفاق والاستثمار أو ربما تحقيق تخفيضات ضريبية.
مسار أسعار الفائدة
كبير استراتيجي الأسواق في BDSwiss MENA، مازن سلهب، يقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- من الواضح أن الارتفاع عالمياً في عوائد سندات الدول المتقدمة كان انعكاساً لتوقعات الأسواق وقراءتها لمستقبل مسار الفائدة في البنوك المركزية للاقتصادات المتقدمة.
- المشكلة أنه ليس بالضرورة أن يعكس هذا المسار واقعيةً اقتصادية أو استثمارية؛ لأننا نعتقد بأن دورة رفع الفائدة انتهت تقريباً ولا نرجّح بأكثر من 30 بالمئة رفعاً آخر للفائدة من أميركا مع نهاية العام الجاري في اجتماع ديسمبر المقبل.
- بينما يبدو الوضع أكثر تعقيداً في بريطانيا مع بقاء التضخم أعلى من 6.5 بالمئة (أميركا 3.7 بالمئة).
- كما أن الفائدة التي وصلت 5.25 بالمئة حالياً الأعلى منذ 2008 حيث لا يبدو أن نهاية رفع الفائدة سيكون أصلاً جيداً؛ فيما يخص الاقتصاد البريطاني الذي حقق نمواً بنسبة 0.2 بالمئة في الثاني 2023 و0.3 بالمئة في الربع الأول من هذا العام.
والشهر الماضي، فاجأ بنك إنجلترا الأسواق، مبقياً على معدلات الفائدة دون تغيير، عند مستوى 5.25 بالمئة، وذلك للمرة الأولى التي يتم فيها تثبيت الأسعار منذ بدء دورة التشديد النقدي في ديسمبر 2021 والتي شهدت رفع الفائدة 14 مرة لتصل لأعلى مستوى لها في حوالي 15 عاماً. فيما تتوقع الأسواق إبقاء بنك إنجلترا على أسعار الفائدة في الثاني من نوفمبر.
وطبقاً للبيانات الرسمية، فقد استقر معدل التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في بريطانيا عند أدنى مستوى في 18 شهرا عند 6.7 بالمئة الشهر الماضي، مخالفاً بذلك توقعات الاقتصاديين التي كانت تشير لمزيد من الارتفاعات.
ويضيف سلهب: "يبدو واضحاً أن التفاصيل الاقتصادية المرتبطة بـ (مبيعات التجزئة وثقة المستهلكين وأرقام التصنيع والصناعة وعجز الحساب الجاري) في حالة تراجع مستمر، بمعنى آخر أن الاستمرار في تسعير عوائد أعلى بتأثير من ارتفاع الفائدة سيكون له تبعات قد تقود الى ركود ".
ويشدد كبير استراتيجي الأسواق في BDSwiss MENA، على أن الاستمرار في ارتفاع الفائدة والعوائد يعني ارتفاع تكاليف الإقراض أولاً، ويعني أيضاً ارتفاع تكاليف خدمة الدين البريطاني الذي تدفعه وزارة المالية في لندن بمليارات الجنيهات الإسترلينية زيادةً سنوياً ويعني الارتفاع في ديون بريطانيا الحكومية.
ويتابع: "هذا قد يقوّض الجهود الحكومية للإنفاق على الكثير من المشاريع ذات البعد الاجتماعي والصحي ودعم الفئات الأكثر احتياجاً في المجتمع.. دون أن نتجاهل حقيقةً مهمة وهي إمكانية رفع الضرائب".
ويلفت سلهب إلى أنه "في بريطانيا خصوصاً، وعندما يكون التنافس بين الحزبين الأكبر (المحافظين والعمال) على أشدّه، يمكن أن تقود هذه العوائد من حيث لا ندري إلى تبعات سياسية غير مباشرة وتغير في معنويات الناخبين أيضاً".
30 مليار جنيه استرليني
وفي السياق، نقل تحليل "سكاي نيوز" عن معهد الدراسات المالية (IFS) إشارته إلى أنه يمكن دفع حوالي 30 مليار جنيه إسترليني من مدفوعات الفائدة هذا العام، أكثر من المتوقع، وهو ما أكده في وقت سابق وزير الخزانة، جيريمي هانت، بينما يعني الاقتراض الأكثر تكلفة أيضاً زيادة في ديون الدولة.
ومع زيادة سعر الفائدة الأساسي إلى 5.25 بالمئة من قبل بنك إنجلترا، تتوقع مؤسسة بحثية أخرى، وهي the Resolution Foundation أن يصل دين الدولة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي (مقياس للنمو الاقتصادي) إلى ما يقرب من 140 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي على مدى الخمسين عاماً المقبلة (إذا كانت توقعات السوق الحالية صحيحة وأن المملكة المتحدة لا تزال لديها أسعار فائدة مرتفعة على المدى الطويل).
ويشار إلى أن العائدات العالية هي أخبار جيدة بالنسبة للبعض. إذ سيحصل حاملو السندات، مثل صناديق التقاعد، على عوائد أعلى.
من جانبه، يشير الرئيس التنفيذي في مركز كوروم للدراسات، طارق الرفاعي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إلى أن ارتفاع عوائد السندات الحكومية ليس فقط في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، ذلك أن هناك دولاً كثيرة -مثل ألمانيا- ترتفع فيها السندات إلى مستويات غير مسبوقة منذ الأزمة المالية العالمية.
وفيما يخص الحالة البريطانية، يوضح أن "التأثير سيكون أكبر من تأثر الولايات المتحدة الأميركية فيما يخص ارتفاع عوائد السندات، خاصة أن سوق الرهون العقارية في لندن مرتبط مباشرة مع العوائد على هذه السندات (..)".
ويضيف: "بالتالي سوف نرى تأثراً سلبياً كبيراً لقطاع العقارات في بريطانيا وبشكل مباشر.. نحن نرى الآن التأثيرات من ناحية تباطؤ الصفقات، لكن لم نر الانخفاض إلا بشكل قليل في الأسعار.. لكن سنرى هذا التسارع في هذه الانخفاض بالقطاع بعد ذلك".
وقف مبيعات السندات
وفي سياق متصل، يحث الاقتصاديون في المملكة المتحدة بنك إنجلترا على وقف مبيعات السندات الحكومية طويلة الأجل في إطار ما يسمى بالتشديد الكمي بعد أن هدد انهيار أسعار السندات بخسارة مليارات الجنيهات الاسترلينية لدافعي الضرائب، طبقاً لتقرير نشرته شبكة "بلومبرغ".
وأظهر تحليل أجراه بنك لويدز وبلومبيرغ أن المبيعات النشطة للسندات المحتفظ بها في الميزانية العمومية لبنك إنجلترا وحدها كلفت حكومة المملكة المتحدة 15 مليار جنيه إسترليني (18.2 مليار دولار) في العام الماضي، مع الجزء الأكبر من الخسائر على السندات المؤرخة لمدة 20 عامًا أو أكثر.
وأدى الارتفاع الكبير في العائدات على سندات الخزانة لأجل 30 عاماً يوم الجمعة إلى أعلى مستوى منذ عام 1998 إلى تفاقم المشكلة حيث يحاول البنك المركزي تقليص محفظة الأصول التي أنشأها خلال أكثر من عقد من التحفيز. ويعني ارتفاع العائدات انخفاض أسعار السندات، مما يقلل من قيمة الأصول التي يبيعها بنك إنجلترا.