تفرض عديد من المعطيات المختلفة نفسها على طاولة المسؤولين في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، عندما يجتمعون يومي 31 أكتوبر والأول من نوفمبر المقبل؛ لاتخاذ القرار المرتقب بتحديد أسعار الفائدة، بعدما وافقوا غالبية التوقعات في الاجتماع الأخير وأبقوا على مستويات الفائدة دون تغيير.
تنقسم تلك العوامل إلى شقين أساسيين؛ الأول مرتبط بالمؤشرات والأوضاع الداخلية، بما في ذلك ما تُظهره البيانات من ضغوطات مستمرة على الأسعار، علاوة على أزمة إضراب عمال السيارات، وتجدد شبح الإغلاق الحكومي مرة أخرى ارتباطاً بما شهده الكونغرس من متغيرات.
بينما الشق الثاني يرتبط بشكل مباشر بـ "الصدمات الخارجية"، وفي ضوء تصاعد التطورات الجيوسياسية، بما في ذلك التصعيد في غزة، وما تسفر عنه من سيناريوهات متباينة من شأنها إضفاء حالة "عدم يقين" بالنسبة للاقتصاد العالمي، وبما لذلك من تداعيات مقلقة للمستثمرين.
وفي خطٍ متوازٍ أيضاً مع ارتباط الولايات المتحدة بدعم أوكرانيا في الحرب التي تخوضها ضد روسيا منذ الرابع والعشرين من شهر فبراير من العام الماضي.
ويشار هنا إلى تصريحات وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، التي ألمحت خلالها إلى أن الوضع في إسرائيل يثير مخاوف إضافية بالنسبة للاقتصاد الأميركي، ومع تأكيد قدرة بلادها على توفير المساعدات لكل من كييف وتل أبيب.
وتبعاً لتلك المعطيات، فإن ثمة تساؤلات مرتبطة بمدى تأثير هذه الأمور مجتمعة على مؤشرات التضخم بالولايات المتحدة، وعلى السيناريوهات المطروحة بالنسبة للفيدرالي في اجتماعه المقبل واتجاهاته بشأن دورة تشديد السياسة النقدية.
وبعد تصاعد التطورات الجيوسياسية أخيراً، هل يشكل تباطؤ التضخم نقطة مرحلية مرتهنة بالاستقرار الاقتصادي أم اتجاهاً عاماً يُبنى عليه، مستفيداً من أثر التشديد النقدي المتبع من جانب الفيدرالي منذ العام الماضي، وبالتالي الوصول في أقرب وقت إلى هدف الـ 2 بالمئة الذي حدده بنك الاحتياطي الفيدرالي؟
اتجاه عام
في هذا السياق، نقلت صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية عن رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو، أوستان جولسبي، قوله:
- لا يمكن إنكار أن تباطؤ التضخم في الولايات المتحدة كان اتجاهاً وليس مجرد نقطة مؤقتة، على الرغم من سلسلة البيانات الاقتصادية الأخيرة التي تظهر ضغطاً مستمراً على بعض الأسعار.
- التقدم نحو إعادة التضخم إلى هدف البنك المركزي الأميركي البالغ 2 بالمئة ليس متوقفاً.. ولا يتعين ربط قرارات السياسة النقدية المقبلة بمجموعة ضيقة من البيانات.
- بنك الاحتياطي الفيدرالي "يقترب بسرعة" من النقطة التي يتحول فيها النقاش حول السياسة النقدية بعيداً عن مدى رفع أسعار الفائدة إلى المدة التي يجب الحفاظ خلالها على هذا المستوى.
- بنك الاحتياطي الفيدرالي قادر على السيطرة على التضخم دون التعرض لآلام اقتصادية كبيرة.
لكنه قال في الوقت نفسه إنه يشعر بقلق بالغ إزاء أثر الاضطرابات المختلفة، والتطورات التي يهدد تلك النتيجة المرجوة.. "لقد أدت صدمات أسعار النفط والصدمات الخارجية إلى خروج عمليات الهبوط الناعم عن مسارها".
وإضافة إلى ذلك، يشكل إضراب عمال صناعة السيارات المتوسع، بالإضافة إلى تجدد شبح إغلاق الحكومة الأميركية الشهر المقبل، مخاطر إضافية.
التطورات الجيوسياسية
بينما يتحدث محللون في تصريحات متفرقة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" في السياق نفسه عن أثر التطورات الجيوسياسية إضافة إلى ذلك، ومدى انعكاسها على معدلات التضخم والوضع بالنسبة للاقتصاد الأميركي، لا سيما في ضوء انخراط واشنطن في تلك التطورات، من خلالها دعمها لكل من كييف وتل أبيب.
وطبقا لأستاذ الاقتصاد بكلية ويليامز، كينيث كوتنر، فإن التضخم يتباطأ بالتأكيد "لكن السؤال الكبير هو ما إذا كان سيستمر في الانخفاض.. فهل يتمكن بنك الاحتياطي الفيدرالي من خفض سعر الفائدة دون المزيد من تشديد السياسة؟ لدي شكوكي".
ويتابع في تصريحات لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قائلاً: أظن أنه مع عدم تغيير سياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي، فإن التضخم سيظل عند مستوى 3 بالمئة تقريباً".
ويتحدث عن أثر التطورات الجيوسياسية الراهنة، موضحاً أن "تلك التطورات تشكل مصدراً هائلاً لعدم اليقين.. من الصعب أن نعرف كيف ستؤثر (التوترات في الشرق الأوسط) على الاقتصاد.. وأظن أنه لن يكون لذلك تأثير مباشر على الإنفاق، ولكن بشكل عام لا تحب الشركات والأسر عدم اليقين، لذا فإن هذا وحده قد يدفعهم إلى خفض الإنفاق".
ويستطرد: "مصدر القلق الأكبر في رأيي هو استمرار الجمود في الكونغرس. إذا أصبح جمهورياً متشدداً مثل جيم جوردان رئيساً للمجلس، فهناك خطر من أن يتراجع الكونغرس عن اتفاق الميزانية، وسيكون هناك إغلاق حكومي، وسيكون لذلك تأثير سلبي مباشر على الإنفاق".
وقبل أيام، أطاح أعضاء مجلس النواب الأميركي برئيسه كيفن مكارثي، في خطوة تعد الأولى في تاريخ الولايات المتحدة وسط صراع داخلي بين الجمهوريين.
اتساع الصراع.. السيناريو الأسوأ
الأستاذ في المالية العامة واقتصاديات الأعمال بجامعة كاليفورنيا الجنوبية، أريس بروتوبابادكيس، يقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إنه يكاد يكون من المؤكد أن التضخم يتباطأ في الولايات المتحدة، على الرغم من أن المدة التي سيستغرقها قبل أن يصل إلى 2 بالمئة (الهدف الذي حدده بنك الاحتياطي الفيدرالي) أمر مشكوك فيه.
ويتابع: "في رأيي، سيكون هناك ارتفاع آخر بنسبة ربع نقطة مئوية هذا العام (بأسعار الفائدة)"، وذلك في سياق مساعي كبح جماح التضخم والوصول إلى المعدل المستهدف المذكور.
بينما يقلل من ناحية أخرى من أثر الأحداث الجيوسياسية (بالإشارة إلى التصعيد في غزة) على معدلات التضخم العالمية ما لم يتوسع الصراع، ويقول في ذلك الصدد: "أعتقد بأنه ما لم يتسع نطاق الصراع في الشرق الأوسط (التصعيد في غزة)، فلن يكون له تأثير كبير على الاقتصاد الأميركي. وعلى أية حال، ليس من مصلحة إسرائيل إطالة أمد الحرب ضد حماس؛ لأنها في النهاية ستخسر الحرب الدعائية مع تزايد الخسائر في صفوف المدنيين".
تظل تلك المعطيات حاضرة في ذهن الاحتياطي الفيدرالي خلال اجتماعه المقبل. بينما وبحسب أداة FedWatch الخاصة بمجموعة CME، فإنه منذ اجتماع سبتمبر الماضي، تستبعد الأسواق احتمال رفع سعر الفائدة مرة أخرى. حيث أن هناك احتمال بنسبة 9 بالمئة فقط لرفع أسعار الفائدة في الاجتماع المقبل المقرر عقده من 31 أكتوبر إلى الأول من نوفمبر، واحتمال بـ 28 بالمئة تقريبًا في اجتماع ديسمبر.
تكاليف الإسكان
وإلى ذلك، يشير الأستاذ بجامعة ويسترن، الكاتب والمفكر الاقتصادي مايكل باركين، في تصريح لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن بيانات التضخم في الولايات المتحدة الأميركية يُنظر إليها من زاويتين؛ التغير بالمئة مقارنة بالعام السابق (على أساس سنوي)، وهو ما يشهد اتجاهاً هبوطياً، فيما تتراوح التغيرات الشهرية السنوية بين صفر و7+ بالمئة، ولها اتجاه تصاعدي معتدل".
ويشدد في السياق نفسه على أن التطورات الجيوسياسية الحالية تزيد من حالة عدم اليقين وتجعل أي توقع عرضة لهامش واسع من الخطأ".
وأظهر أحدث تقرير للتضخم في الولايات المتحدة، أن مؤشر أسعار المستهلكين استقر عند 3.7 بالمئة في سبتمبر الماضي على أساس سنوي، خلافاً للتوقعات التي كانت تشير إلى تراجعه.
فيما عانى الاقتصاد الأميركي مع الارتفاع المفاجئ في التكاليف المرتبطة بالإسكان، فضلاً عن تلك المرتبطة بغرف الفنادق والخدمات الترفيهية.
وتراجع مؤشر أسعار المستهلكين الأساسي -الذي يستثني أسعار المواد الغذائية والطاقة المتقلبة- على أساس سنوي إلى 4.1 بالمئة متماشياً مع التوقعات، في أدنى مستوى في أكثر من عامين.
بينما تشير البيانات الأميركية الأخيرة مجتمعة إلى أن الزخم في أكبر اقتصاد في العالم لا يزال قوياً، مما يزيد من حدة الجدل بين مسؤولي بنك الاحتياطي الفيدرالي حول ما إذا كانوا سيحتاجون إلى رفع سعر الفائدة القياسي بمقدار ربع نقطة مئوية أخرى هذا العام.
ويبلغ سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية أعلى مستوى له منذ 22 عاماً عند 5.25 بالمئة إلى 5.5 بالمئة، وهو المستوى الذي بلغه في يوليو. ومن المقرر أن يجتمع المسؤولون في نهاية الشهر لاتخاذ قرارهم المرتقب.
وطبقاً لما يظهر محضر اجتماع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأخير، فإن ثمة شعوراً متزايداً بـ "عدم اليقين" فيما يخص مسار الاقتصاد الأميركي، في ضوء ما تشكله البيانات المتقلبة وتشديد الأسواق المالية من مخاطر على النمو.
وأظهر محضر الاجتماع عن شهر سبتمبر اتفاق المشاركين على أن ضرورة إبقاء السياسة النقدية "مقيدة لبعض الوقت"، من أجل أن تصبح اللجنة المعنية بتحديد معدلات الفائدة التابعة للاحتياطي الفيدرالي واثقة من أن التضخم يتحرك نحو الانخفاض بشكل مستدام نحو هدفه.
معدلات التضخم
أما الأستاذ الزائر بجامعة فلوريدا الأميركية، جاي ريتر، فيشير في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أنه من المتوقع أن يصل معدل التضخم على مدى السنوات العشر المقبلة في الولايات المتحدة إلى حوالي 2.4 بالمئة سنوياً، بناءً على الفرق بين عوائد سندات الخزانة لأجل 10 سنوات وعوائد السندات المربوطة بالتضخم ".. وبالتالي، من المتوقع أن ينخفض معدل التضخم الحالي بسرعة كبيرة".
ويتابع: لم يكن لهجوم حماس على إسرائيل تأثير كبير على توقعات التضخم. ربما يكون العامل الأكثر أهمية في إبقاء معدلات التضخم منخفضة على مستوى العالم هو تباطؤ الاقتصاد الصيني.
ورغم أن الاقتصاد الصيني سجل نمواً سريعاً خلال الأعوام الـ 44 التي تلت الإصلاحات التي أقرها دنج شياو بينج (الذي قاد الصين بين عامي 1978 و1992)، فإن نصيب الفرد في الدخل في الصين لا يزال أقل من نصف نظيره في اليابان أو تايوان أو كوريا الجنوبية. وأدى تباطؤ الاقتصاد الصيني إلى انخفاض الطلب على عديد من السلع بما فيها النفط مقارنة بما كان سيحدث لو لم يحدث التباطؤ.
وأظهرت بيانات رسمية أن الاقتصاد الصيني حقق نموا بلغت نسبته 1.3 بالمئة في الربع الثالث مرتفعا من 0.5 بالمئة في الربع الثاني ومتجاوزاً توقعات السوق بتسجيل نمو نسبته واحد بالمئة. كما ارتفع الناتج الصناعي وتراجعت البطالة.
وفيما ذكر تقرير الصحيفة البريطانية المشار إليه، أن مايزيد تعقيد المشهد هذا العام، هو "الصدمات الخارجية"، بما في ذلك التصعيد الحاد في التوترات في (غزة)، الذي أدى إلى ارتفاع أسعار النفط وأثار قدراً كبيراً من عدم اليقين بشأن آفاق النمو العالمي والتضخم، يلفت الأستاذ بجامعة جنوب كاليفورنيا، جوناثان أرونسون، لدى حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن العوامل الجيوسياسية حتى الان لم تمنع الطريق نحو انخفاض أسعار الفائدة.. لكن (التصعيد) بين إسرائيل وحماس وربما لبنان وحتى إيران يمكن أن يغير ذلك".
ويعتقد بأنه من المحتمل أن يتخلى الفيدرالي عن سياسته النقدية المشددة مع أوائل العام المقبل 2024 إذا ما تم احتواء "الأعمال العدائية".