شهدت صناعة الاستشارات العالمية قفزات واسعة إبان فترة جائحة كورونا، مستفيدة من تنامي الطلب على خدماتها في ظل الإشكالات التي واجهتها عديد من الشركات في قطاعات مختلفة تحت وطأة التحديات التي واجهت الاقتصاد العالمي حينها، غير أن ذلك الطلب يبدو أنه قد وصل ذروته المفاجئة، في ظل مجموعة من العوامل الأساسية التي تهدد الصناعة، وفي وقت تعتري فيه حالة من الضبابية وعدم اليقين المشهد الاقتصادي الحالي.
وبحسب بيانات مجموعة الأبحاث الأميركية إيبيس وورلد، فإن صناعة الاستشارات العالمية، تدر إيرادات سنوية تبلغ نحو 860 مليار دولار.
وكان تقرير نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية، قد حدد ثلاثة تحديات رئيسية تهز قطاع الاستشارات، وهي (تقلص الميزانيات، وتبعات جائحة كورونا، والتقدم المحرز في تقنيات الذكاء الاصطناعي).
وبالإشارة إلى الذكاء الاصطناعي، فإن ما تشهده تطبيقاته من تطور واسع من شأنه أن يشكل تهديداً لمصير الشركات الاستشارية كحال الكثير من الوظائف البشرية التي تواجه شبح إزاحتها بعد الاعتماد المتزايد على التقنيات المدعومة بالـ AI واستخدامها في المجالات المختلفة، فبدخوله في شتى القطاعات أثر بالغ لفقدان الناس وظائفهم، بعد أن أصبح بوسع تقنياته المتعددة القيام بتلك الوظائف بشكل أسرع وأوفر مادياً.
ومع الرواج الذي شهدته تطبيقات الذكاء الاصطناعي بين الشركات الكبرى والاستعانة بها في مهام كان مسؤول عنها عناصر بشرية العاملين بالاستشارات، بدأت تلك الشركات الاستغناء عنهم واستبدال التطبيقات بهم.
وتلجأ المنظمات أو الأفراد إلى تعيين شركات الاستشارات بهدف الحصول على مشورة خارجية أو عندما تحتاج إلى خبرات وخدمات متخصصة، والتي يقدمها المستشارون لتشمل الاستراتيجية والعمليات والاستشارات المالية والموارد البشرية وتكنولوجيا الإنترنت، للوصول إلى تحقيق أهداف مختلفة بناء على مجال التخصص.
ووفق تقرير الصحيفة البريطانية، فإن شركات من أكسنتشر إلى إي واي وماكينزي، تلغي آلاف الوظائف، كما أن تقييمات الشركات الاستشارية آخذة في الانخفاض، في وقت تتعرض فيه سمعة الصناعة للهجوم في أعقاب فضائح مثل سوء سلوك الشركات في جنوب أفريقيا.
وأظهر الاستطلاع الأخير الذي أجرته شركة كورن فيري لشركاء الاستشارات في أميركا الشمالية مدى القلق بين الموظفين العاملين في تلك الصناعة، إذ توقع ما يقرب من 60 بالمئة انخفاض الطلب وزيادة الضغط على الرسوم في العام المقبل.
وأعرب أكثر من 80 بالمئة عن قلقهم بشأن الحصول على ما يكفي من العمل، وتوقع نصفهم تقريباً المزيد من عمليات التسريح من العمل.
وفي تصريحات متفرقة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" حول مدى تأثير الذكاء الاصطناعي على صناعة الاستشارات، أجمع خبراء ومختصون على أن التطور المتلاحق للذكاء الاصطناعي بشكل خاص يهدد وظائف المستشارين ليلتهمها كما فعل في عديد من الوظائف الأخرى، مؤكدين أن العاملين في هذا المجال ليس أمامهم سوى مواكبة تلك التطورات والاستفادة منها للتطوير من خبراتهم.
كما يشار إلى حالة "عدم اليقين" التي تلف الاقتصاد العالمي، والتي تؤثر على عديد من الصناعات في قطاعات مختلفة، ومع تنامي الضغوط التضخمية بشكل واسع.
التخفيض من التكلفة
قال أستاذ الاقتصاد في جامعة بورتسموث، الدكتور أحمد عبود، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، لدى حديثه عن التحديات التي تواجه صناعة الاستشارات:
• تطبيقات الذكاء الاصطناعي أصبحت تندمج في كل المجالات، حتى اقتحمت الأعمال التي يقوم بها البشر ما يهدد بقائهم في وظائفهم.
• صناعة الاستشارات شأنها كباقي المجالات التي تأثرت بالذكاء الاصطناعي.
• ثمة عوامل مرتبطة بتقليل العمالة بالنسبة لأصحاب الأجور المرتفعة في الشركات الكبرى التي تعاني من انخفاض بمعدلات النمو، وتعاني من تحقيق خسائر وتكلفة إلزامية مثل الاستيراد أو التصنيع والمواد الخام.
• لا تستطيع الشركات تحمل تلك التكلفة، ما يؤثر بشكل كبير على ربحية الشركة ويؤدي إلى تحقيق خسائر، ومن أجل استمرارية النشاط على الشركة اتخاذ قرارات صعبة قد يكون منها التخلص من أصحاب الرواتب المرتفعة سواء من أصحاب الخبرات والإداريين من أجل تخفيض من تكلفة الشركة وبالتالي استمرارية النشاط.
وفيما يخص الاستشاريين لدى الشركات الكبرى، فأوضح أن أعمالهم دائماً ما ترتبط بتحقيق الأرباح المرتفعة، لأن سوق العمل -مثل أي سوق هناك عرض وطلب- مرتبطة بالربحية وتحقيق أرباح مرتفعة، ففي حالة تعرض الشركات لانخفاض في معدلات الربحية أو تعرضها لخسائر أول ما تستغنى عنه هم الاستشاريين.
وأضاف: معظم المستشارين يتم تعيينهم من أجل تحقيق نسب عالية من الأرباح وارتفاع ربحية السهم بالنسبة للمساهمين، ودائماً ما ترتبط أجورهم وبالأخص في الإدارة العليا ارتباطاً وثيقاً بربحية الشركة وفي حالة عدم وجود ربحية مرتفعة من الطبيعي أن تتجه الشركة إلى تخفيض تلك التكلفة.
واقع جديد
وإلى ذلك، أوضح المحلل الاقتصادي بصحيفة فاينانشال تايمز، أنور القاسم، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن صناعة الاستشارات هي صناعة حيوية جداً في الاقتصاد والتكنولوجيا والموارد البشرية وعلى مستوى التعاون بين الدول والشركات على مختلف أصنافها.
وأشار إلى أن حجم تكلفة الاستشارات في الولايات المتحدة للعام الماضي 2022 على سبيل المثال قد تجاوز 116 مليار دولار، بينما القيمة السوقية للاستشارات هناك تقارب 150 ملياراً، لافتاً إلى أن هذه الميزانية الضخمة تتجاوز مجموع ميزانيات عدد كبير من دول العالم، وعليه يمكن بناء نظرة واقعية لحجم الاستشارات في الدول العشرين الأكبر على مستوى الاقتصادي الدولي.
وأضاف أن تداعيات الجائحة، والحرب المستمرة في أوكرانيا، واشتداد حالة الطوارئ المناخية، جميعها عوامل فرضت واقعاً جديداً في مفاصل الاقتصادات وأدت بالفعل إلى تباطؤ النمو، وتفاقم الفقر والجوع، وتهديد أمن الطاقة، وإطلاق العنان للضغوط التضخمية، كما أدت إلى أزمة الديون، التي تبدو مدعاة للقلق.
وقال إنه على مستوى الشركات الكبرى لا يمكن الاستغناء عن الاستشارات بل ستزيد وفق الاحتياجات الحالية والانتقال إلى اقتصادات حديثة تعتمد على الطاقة النظيفة وما تفرزه من فرص كبيرة، وأن هذا ما يؤكد أن أغلب رؤساء الوزراء ووزراء المالية في الدول الغربية يتحولون إلى مستشارين اقتصاديين بعد الخروج من السلطة، بل إن بعضهم يقوم يدور المندوب التجاري أثناء فترة الحكم وعقب مغادرته.
يعني ذلك أن أي تراجع أو مطبات تواجهها صناعة الاستشارات هي أمور عارضة على المدى القصيرة مرتبطة بطبيعة التطورات الاقتصادية، بينما لا غنى تلك الصناعة عموماً.
وذكر المحلل الاقتصادي بصحيفة "فاينانشال تايمز" أنه بالنسبة للشركات المتوسطة والصغيرة فالحال يختلف، فقد تخفض هذه الشركات الاعتماد على قطاعات الاستشارات لضغط المصاريف وتوفير النفقات، ومن ثم اللجوء إلى طرق بديلة.
ورجح أن يعزز مجال الاستشارات الداخلية والخارجية، في ظل تحول تدريجي لاقتصادات العالم التي تتحول إلى الطاقة النظيفة وخلق صناعات ومصادر للطاقة النافعة، لكن هذا بدوره قد يجد منافسا قوياً جداً قد يسلب المندوبين المستشارين وأيضا المخططين وظائفهم في مختلف القطاعات الاقتصادية، في ظل ثورة الذكاء الصناعي التي قد تقضي على مئات الملايين من الوظائف على مستوى العالم الصناعي وغير الصناعي.
الذكاء الاصطناعي يهدد الصناعة
من جهته، قال العضو المنتدب لشركةIDT للاستشارات والنظم، محمد سعيد، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الذكاء الاصطناعي دفع الكثير من الشركات للاستغناء عن أغلب الوظائف ليحل محلها، وعلى رأس تلك الوظائف كانت وظيفة الاستشاريين.
وأوضح أنه في الفترة الأخيرة ومنذ نوفمبر الماضي مع وصول تشات جي بي تي CHATGPT وأقرانه من أدوات ظهرت فيما بعد، بدأ الذكاء الاصطناعي من خلال استعانته بخبرات كثيرة استمدها من كميات كبيرة من بيانات تراكمت عبر سنوات من وسائل التواصل الاجتماعي والحوارات بين مستخدميها، أصبح متوافراً لديه كمية كبيرة من البيانات، وقادراً على أن يوظف هذه الخبرات والبيانات الضخمة بأن يُنتج نتائج قادرة على أن تحل محل الإنسان في الكثير من الوظائف.
- إن أية شركة كانت تستعين بعنصر بشري خارجي للعمل وعلى رأسهم الاستشاريين، بدأت التفكير في اللجوء للذكاء الاصطناعي من أجل أن يؤدي الأدوار التي كانوا يقومون بها.
- بنسبة تتراوح بين 60 إلى 70 بالمئة الذكاء الاصطناعي أصبح قادراً على تنفيذ الأشغال التي يقوم بها الاستشاريين، حيث يقوم بإعداد الخطط والرؤى المختلفة، فلديه وجهة نظر ويقوم بالإصلاح من الأخطاء واكتشافها مُبكرا بكفاءة شديدة.
- حال كانت الشركة تتوافر لديها مهارة شديدة في استخدام الذكاء الاصطناعي ستستغني عن الاستشاريين بنسبة مئة بالمئة!
وأشار إلى أنه حتى الآن ذلك لم يحدث بشكل كامل لأنه في بعض الأحيان تكون هناك أعمال تحتاج إلى إبداع بشري خاص، كما أن كثيراً من الشركات لا زالت غير قادرة على استخدام الذكاء الاصطناعي بالكفاءة اللازمة التي تدفعها للاستغناء عن الاستشاري بنسبة مئة بالمئة.
وأكد أن الذكاء الاصطناعي يهدد كل المهن والوظائف بلا استثناء وعلى رأسها الاستشاريين، وهو ما يحدث بالتدريج، لذا فإن عليهم التطوير من أنفسهم واستغلال الذكاء الاصطناعي للتطوير من خدماتهم ورفع مستوى أدائهم في وظيفتهم بشكل يجعلهم أعلى من المنافسة سواء كانت منافسة مع الشركات المنافسة لهم أو حتى منافسة مع الذكاء الاصطناعي.