شهد عام 2023 تطورات كبيرة على صعيد تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، فهذه التكنولوجيا الجديدة التي ظهرت قبل شهرين من انتهاء عام 2022، تثبت يوماً بعد يوم، أنها قادرة على تغيير قواعد اللعبة، في العديد من القطاعات الصناعية والإنتاجية، التي كانت مقصورة على البشر.
فالحديث عن مزاحمة الذكاء الاصطناعي للبشر، زاد بصورة كبيرة في الآونة الأخيرة، مع توقعات بحدوث تحولات كبيرة في سوق العمل العالمي، خلال السنوات الخمس المقبلة، حيث سيؤدي التطور المستمر لتقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، إلى استغناء الكثير من الشركات والمؤسسات عن العمال، واستبدالهم بالآلات والروبوتات والبرامج الذكية.
وهذه التوقعات أحيت المخاوف لدى الكثير من الموظفين، في جميع أرجاء العالم، خاصة أنها كانت مدعومة بتقارير لمؤسسات دولية وخاصة، أشارت إلى أن اتساع رقعة استخدام الذكاء الاصطناعي وأدواته، يعني أن هناك عدداً متزايداً من الموظفين سيصبحون عاطلين عن العمل.
الوظائف الأكثر عرضة للخطر
وبحسب تقرير سابق لمصرف غولدمان ساكس، فإن الذكاء الاصطناعي التوليدي، يهدد نحو 300 مليون وظيفة بدوام كامل في أميركا وأوروبا، ووفقاً لتلك التقديرات، تصبح نحو 25 بالمئة من القوى العاملة الحالية في أميركا و24 بالمئة من القوى العاملة في أوروبا، مهددة بالاستبدال بالذكاء الاصطناعي.
كما حذر غولدمان ساكس من أنه كلما كان الذكاء الاصطناعي أكثر ذكاءً، كانت عملية استبدال البشر به أسرع.
من جهتها، رجّحت دراسة أعدتها منظمة العمل الدولية، أن تكون المهن الأكثر تأثراً من الناحية السلبية بتقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي، هي تلك المرتبطة بإنشاء النصوص، والصور، والأصوات، والرسوم المتحركة، والنماذج الثلاثية الأبعاد، وهذه النتيجة تدعمها أيضاً ما توصلت إليه ورقة عمل شركة OpenAI المبتكرة لـ ChatGPT، حول الوظائف الأكثر عرضة لخطر الاستبدال بواسطة الذكاء الاصطناعي، والتي شملت الكتّاب والمؤلفين، ومصممي المواقع الإلكترونية والمحللين الماليين والمحاسبين، والصحفيين، وعلماء الرياضيات، ومعدّي الضرائب.
فوز البشر بأول نزاع ضد الذكاء الاصطناعي
والإجماع على أن الذكاء الاصطناعي التوليدي سيكون له تأثيرٌ مضرٌ على بعض الأعمال والمهن والوظائف المرتبطة بالبشر، حتّم على بعض العمال المتضررين، الدخول مبكراً إلى حلبة الصراع والقيام بمواجهة مباشرة مع هذه التكنولوجيا الجديدة، كانت نتيجتها فوز البشر بأول نزاع عمالي كبير ضد الذكاء الاصطناعي.
ففي ضربة حاسمة للذكاء الاصطناعي التوليدي، وبعد إضراب دام لـ 148 يوماً، نجح كتاب السيناريو في هوليوود، بتأمين حواجز حماية كبيرة، ضد استخدام هذه التكنولوجيا في مكان العمل.
وكان الإضراب الذي دام لنحو خمسة أشهر تقريباً، يتعلق في القسم الأكبر منه باستخدام الذكاء الاصطناعي في كتابة السيناريو، والتأثير الوجودي لذلك على الكتّاب، إضافة إلى بعض الأمور المتعلقة بمنصات البث المباشر.
شروط الاتفاق
وبموجب نص الاتفاق الذي توصلت إليه نقابة الكتّاب الأميركية مع الأستوديوهات وشركات الإنتاج، فإنه:
يجب على الأستوديوهات وشركات الإنتاج الكشف للكتاب، عما إذا كانت أي مادة مقدمة لهم قد تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي جزئياً أو كلياً.
- لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون كاتباً معتمداً.
- لا يستطيع الذكاء الاصطناعي كتابة أو إعادة كتابة "مادة أدبية".
- لا يمكن للكتابة المولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي، أن تكون مادة مصدرية.
- لا يمكن استخدام المواد التي ينتجها الذكاء الاصطناعي، لتقويض رصيد الكاتب أو حقوقه المنفصلة.
والاتفاق المبدئي بين نقابة الكتّاب الأميركية من جهة والأستوديوهات وشركات الإنتاج من جهة أخرى، لم يحظر جميع استخدامات الذكاء الاصطناعي، حيث اعترف كلا الجانبين، أن هذه التكنولوجيا يمكن أن تكون مفيدة في العديد من جوانب صناعة الأفلام، بما في ذلك كتابة السيناريو، ولكن الأمر يجب أن يتم بموافقة جميع أطراف الاتفاق، كما أنه لا يمكن للشركات المنتجة، أن تطلب من الكتّاب استخدام برامج الذكاء الاصطناعي، في حال لم يروا بأنفسهم أن ذلك مناسب.
واتفقت الشركات والنقابة على الاجتماع مرتين على الأقل سنوياً، خلال مدة العقد البالغة ثلاث سنوات، وذلك لمناقشة شروط العقد مع التطورات السريعة التي يشهدها عالم الذكاء الاصطناعي التوليدي.
عناصر حسمت فوز البشر بالمعركة
وتقول المحللة في شؤون الاقتصاد محاسن مرسل في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الهدف الأساسي لكتّاب السيناريو في هوليوود، كان لجم تغلغل الذكاء الاصطناعي في مهنتهم، والسيطرة عليه قبل أن يجعلهم عاطلين عن العمل، لتكون النتيجة فوزهم بالنزاع، مشيرة إلى أن ما حسم المعركة لصالح البشر هو تحركهم السريع، حيث بدأ إضراب الكتّاب في الثاني من مايو 2023، أي بعد خمسة أشهر فقط من ظهور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي، فمع إدراك الكتّاب أن مهنتهم ستكون الأكثر تضرراً من التكنولوجيا الجديدة سارعوا إلى التحرك، في حين حاولت شركات الإنتاج تأخير التفاوض، حول تأثيرات الذكاء الاصطناعي حتى عام 2026، الأمر الذي لم يوافق عليه الكتّاب.
نهج جديد للتعامل مع مخاطر الذكاء الاصطناعي
وترى مرسل أن ما حصل سيؤسس بالتأكيد لنهج جديد، في تعامل القطاعات العمالية، الأكثر تضرراً من الذكاء الاصطناعي التوليدي، مع المخاطر التي تنتظرهم، متوقعة تكرار سيناريو الاعتصامات ضد الذكاء الاصطناعي خلال الأشهر المقبلة، خاصة أن تحقيق الفوز على هذه التكنولوجيا، يستدعي التحرك سريعاً قبل أن تصبح أقوى، كاشفة أنه كلما أصبحت تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي متطورة أكثر، أصبح من الصعب على العمال الفوز في المعركة ضدها، ولذلك فإن الفوز في المعركة يستدعي التحرّك في الوقت المناسب.
وبحسب مرسل فإن شروط الاتفاق التي تم التوصل إليها بين كتّاب السيناريو في هوليوود وشركات الإنتاج، ستتم مراقبتها عن كثب، من قبل النقابات العمالية في جميع أنحاء العالم، لافتة إلى أن الأمر الإيجابي في ما حصل، هو أن الاتفاق ضمنَ عمل البشر إلى جانب الذكاء الاصطناعي وبموافقتهم، وهذا ما سيؤدي إلى إنشاء تحالف بين العمال والآلات تحت إدارة البشر، حيث سينعكس ذلك تطوراً كبيراً على صعيد الإنتاجية والسرعة والكفاءة في العمل.
سابقة لا يمكن تعميم نتيجتها
من جهته يقول أخصائي شؤون التكنولوجيا جورج داغر، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن ثورة الذكاء الاصطناعي تعيد تشكيل عالم الأعمال بمعدل غير مسبوق، وهذا ما خلق الكثير من النقاشات في الفترة الأخيرة، حول كيفية التصدي لما يحصل، حيث هناك قلق متزايد من التأثير المحتمل لهذه التكنولوجيا، مع ما يترتب عليها من عواقب واسعة على بعض أنواع الوظائف، وبالتالي فإنه من البديهي اعتبار ما قام به كتّاب السيناريو في هوليوود، والنتيجة التي حققوها، سيكون بمثابة مقدمة لمعارك عمالية مقبلة.
ويرى داغر أن فوز البشر على الذكاء الاصطناعي، يعتبر سابقة من نوعها ولكن لا يمكن تعميم نتيجتها على جميع القطاعات، خاصة أن النقابات العمالية في العالم، قد تفتقر إلى القوة التي تتمتع بها نقابة الكتّاب الأميركية، والتي ساهم تحركها في الوقت المناسب، في تحقيق هذا الانتصار، فتقنيات الذكاء الاصطناعي حالياً، لا تمتلك القدرة على كتابة سيناريو متماسك لفيلم، حيث استغل الكتّاب نقطة الضعف هذه، فتوقفوا عن العمل وألزموا شركات الإنتاج على التفاوض على ما قيل إنه يمثل تهديداً محتملاً لوظائفهم، في وقت لم يكن أمام شركات الإنتاج أي بديل للجوء إليه.
الذكاء الاصطناعي يفتقد للبصمة الإنسانية
وبحسب داغر فإن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، تفتقد البصمة الإنسانية في كيفية سرد الأمور، حيث إن هذا الأمر يتقنه البشر فقط، ولذلك لن يكون بإمكان الآلات ومهما تطورت، أن تحل مكان البشر في كتابة القصص، ولكن المبدأ الأساسي الذي يمكن استخلاصه من الاتفاق الذي حصل مع كتّاب هوليوود، هو أن الذكاء الاصطناعي أداة، يمكن دمجها لتحسين سير العمل بموافقة جميع المعنيين، ما يعني أنها ليست خياراً لاستبدال العامل البشري، وبالتالي يجب على الإنسان عدم الذعر، وتطوير مهاراته بشكل يتيح له استخدام الذكاء الاصطناعي وجعله حليفا له وليس عدوا.