أوجدت البيانات الأميركية الأخيرة التي تُظهر استمرار التراجع الحاد في مخزونات النفط الخام، ارتباكاً واسعاً بالأسواق، مع تنامي القلق حول "شح الإمدادات العالمية"، وبما يهدد بدورة جديدة من ارتفاع معدلات التضخم على نحوٍ واسع حول العالم.
التقطت الأسواق الإشارة، وتفاعلت بشكل واسع مع تلك البيانات بصورة تُظهر حجم الارتباك الذي تشهده أسواق النفط تحت وطأة عديد من التطورات الواسعة وعمليات خفض الإنتاج، فيما تسير الأسعار باتجاه الوصول إلى رقم ثلاثي، أو بحدود 100 دولار للبرميل قبل نهاية العام الجاري.
- خلال الأسبوع الماضي، سجلت مخزونات النفط الخام الأميركية، انخفاضاً بوتيرة أسرع، متجاوزة التوقعات السابقة.
- طبقاً للبيانات الرسمية الصادرة في الولايات المتحدة، فإن مخزونات النفط الخام انخفضت خلال الأسبوع بنحو 2.2 مليون برميل، لتصل بذلك إلى 416.3 مليون برميل.
- فيما كانت تقديرات المحللين السابقة -وفقاً لاستطلاع رويترز- تشير إلى انخفاض قدره 320 ألف برميل تقريباً.
انعكست تلك البيانات على الأسواق بصورة فورية، وقفزت الأسعار يوم الأربعاء بنسبة 3 بالمئة، إلى أعلى مستوى عند التسوية في 2023 بعد هذا الانخفاض الحاد في مخزونات الخام الأميركية.
وقلصت الأسعار مكاسبها خلال تعاملات الخميس، حيث هبط خام برنت بنحو 0.6 بالمئة إلى حدود 96 دولارا للبرميل، بعدما لامس في وقت سابق من الجلسة أعلى مستوى له منذ نوفمبر فوق 97 دولارا. وخسر مؤشر غرب تكساس الوسيط الأمريكي نحو 1 بالمئة إلى أقل من 93 دولارا.
ورغم ذلك لا تزال أسعار النفط تتجه لمكاسب أسبوعية وشهرية قوية، في ظل الإعلان عن سلسلة من تخفيضات الإمدادات تستمر حتى نهاية هذا العام، ما يزيد من مخاوف المستثمرين بشأن التضخم المستمر في الولايات المتحدة وأوروبا.
تباين التقديرات
الكاتب البريطاني المتخصص في أسواق الطاقة، باتريك هيرين، يقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إنه "من السابق لأوانه تحديد انعاكسات انخفاض المخزونات الأميركية على السوق والأسعار بشكل واضح".
ويضيف: "كان رد فعل أسواق الأسهم بشكل خاص تجاه الانخفاض في كاشنيغ، وهي نقطة التسليم للعقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط، لكن رد الفعل هذا قد يكون مبالغ فيه بشكل عام".
- انخفضت مخزونات الخام الأميركية في مركز التخزين الرئيسي في كانشنيغ بولاية أوكلاهوما بواقع 943 ألف برميل خلال الأسبوع إلى ما دون 22 مليون برميل، وهو أدنى مستوى منذ يوليو 2022.
- تقترب المخزونات في مركز التخزين الرئيسي من مستويات منخفضة قياسية، وذلك بسبب الطلب القوي على التكرير والتصدير، مما أثار المخاوف بشأن جودة النفط المتبقي في المركز، وما إذا كان سينخفض إلى ما دون الحد الأدنى لمستويات التشغيل.
لكن الكاتب البريطاني المتخصص في أسوق الطاقة، يشدد على أن انخفاض إجمالي مخزونات الخام الأميركية جاء بنسبة أقل إثارة للقلق (..). ولكن مما لا شك فيه أن "الأسواق تشهد قوة القيود المفروضة على الصادرات من قبل منظمة أوبك وروسيا، وهي غير متأكدة من قدرة الولايات المتحدة على التعويض بزيادة الإنتاج و/أو السحب من المخزون".
وجاء ذلك الانخفاض، في أعقاب تخفيضات إنتاج طوعية بلغت 1.3 مليون برميل يوميا حتى نهاية العام من السعودية وروسيا. وفيما يواصل خام برنت الاقتراب من مستويات 100 دولار للبرميل والذي تم تداوله في التعاملات المكبرة في آسيا الخميس فوق مستويات الـ 97 دولاراً، عند أعلى مستوى منذ نوفمبر الماضي.
مستقبل أسعار النفط
وتشير تقديرات السوق إلى وصول أسعار النفط إلى "أرقام ثلاثية" قبل نهاية العام الجاري. ونقل تقرير سابق لشبكة "بلومبيغ" عن محللين أن الحديث الدائر لم يعد حول ما إن كانت أسعار النفط سوف تصل إلى مستوى الـ 100 دولار، إنما الحديث حول موعد المدة الزمنية التي يمكن أن تستغرقها السوق من أجل الوصول لهذا المستوى.
- وكالة الطاقة الدولية، كانت قد أبقت على توقعاتها لنمو الطلب العالمي على النفط خلال العام الجاري دون تغيير، وذلك عن مستوى 2.2 مليون برميل يومياً.
- وكانت الوكالة قد أبقت على توقعات نمو الطلب على النفط خلال العام 2024 عند مليون برميل يوميا، وذلك مع تبدد تأثير تعافي الاقتصاد الصيني وزيادة استخدام السيارات الكهربائية.
- ورفض رئيسا شركتي أرامكو السعودية وأكسون موبيل الأميركية تفنيدات وكالة الطاقة الدولية التي تتوقع وصول الطلب على النفط في 2030 إلى الذروة.
عوامل رئيسية
وفي تقدير رئيس مؤسسة GeoStrategic Analysis، بيتر هوسي، فإن "انخفاض المخزونات بسبب لوائح الحكومة الأميركية وتثبيط التنقيب عن النفط والغاز وإنتاجهما، بالإضافة إلى خفض إنتاج أوبك وكذلك زيادة الاستهلاك من موسم القيادة الصيفي.. كل تلك العوامل أدت بشكل أو بآخر إلى إنخفاض المخزونات على النحو المذكور".
ويذكر أن المخزونات في كاشينغ انخفضت لمدة سبعة أسابيع متتالية ويعتبرها العديد من التجار أنها بالفعل عند أدنى المستويات التي تسمح للصهاريج بالعمل بشكل طبيعي. كما أصبح شراء الإمدادات الفوري من مراكز التخزين باهظ الثمن على نحو متزايد، وارتفع سعر الخام الأميركي بشكل ملحوظ بالنسبة للمشترين الأجانب خارج الولايات المتحدة.
ويقول هوسي في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن نتيجة ذلك الانخفاض تمثلت في ارتفاع أسعار النفط الخام والغاز.
ويضيف: "علينا أن نتذكر أيضاً أن الارتفاعات الحادة في أسعار النفط الخام أدت تاريخياً إلى ركود اقتصادي من العام 1974 وحتى العام 2009"، في إشارة للانعكاسات الاقتصادية المحتملة على مستوى الاقتصاد العالمي في ظل الاضطرابات التي تشهدها أسواق الطاقة.
الانعكاس على التضخم
وتعزز اضطرابات أسواق النفط على ذلك النحو اللغط الدائر بشأن مستقبل معدلات التضخم. وبحسب المحلل في آي إن جي، فوتر تيري، فإن "أكبر علامة استفهام بالنسبة لتوقعات التضخم هي تطور أسعار الوقود.. إذا كان هذا ارتفاعاً مؤقتاً، كما نتوقع، فإن التأثير على توقعاتنا للتضخم سيكون معتدلاً إلى حد ما.. لكن الخطر يكمن في أنه إذا ظلت أسعار النفط مرتفعة لفترة أطول، فسوف تقوم الشركات بشكل متزايد بتمرير أسعار الوقود المرتفعة هذه، ما يؤدي إلى وصولها إلى التضخم الأساسي مرة أخرى"، طبقاً لما نقلته صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية.
يؤكد تلك المخاوف الأستاذ بجامعة مكغيل، مو تشودري، والذي ذكر في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن معدلات التضخم -في الولايات المتحدة الأميركية- قد تشهد دورة جديدة من الارتفاع خلال الربع الحالي، وذلك في خطٍ متوازٍ مع أسعار النفط.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، توقعت أوبك عجزًا يصل إلى 3 ملايين برميل يوميًا من النفط الخام في الربع الرابع. ومع إثبات الطلب في الولايات المتحدة والصين مرونة، يرى كثيرون في السوق الآن أن بلوغ أسعار النفط إلى 100 دولار أمر لا مفر منه، حتى مع ارتفاع الدولار واستمرار المخاوف بشأن ارتفاع أسعار الفائدة العالمية.
اختلال التوازن بين العرض والطلب
في السياق، يقول الباحث الاقتصادي المتخصص في شؤون النفط، عامر الشوبكي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن تراجع المخزونات يدلل على اختلال التوازن في العرض بالأسواق، فعندما يكون الطلب أكثر من المعروض فإن الفارق يذهب إلى المخزونات، وبالتالي هناك ضغط على المخزونات العالمية بشكل كامل، ومؤشرات واضحة على انخفاض المخزونات الأميركية التجارية.
ويتابع: "في نهاية الأسبوع الماضي كانت الدلائل تشير إلى أن هناك انخفاضاً بالمخزونات التجارية لأدنى مستوى منذ عام، كذلك فإن احتياطي النفط الاستراتيجي بالولايات المتحدة قد بلغ -في أبريل- أقل مستوياته منذ 40 عاماً عند 368 مليون برميل".
ويشير إلى أن الضغط على المخزونات يدعم أسعار النفط، مشدداً على أن ثمة مجموعة من العوامل الحاسمة التي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار التي يتوقع وصولها إلى 100 دولار للبرميل خلال أسابيع، من أهم تلك العوامل:
- التخفيضات الطوعية والمتفق عليها التي أجرتها أوبك بلس، والهادفة إلى إحداث التوازن في الأسواق.
- الطلب المتنامي من الصين، التي سجلت الشهر الماضي ثالث أعلى مستوى تاريخي يومي للطلب على النفط، وهي أكبر مستورد للنفط على مستوى العالم.
- هناك حوافز وخطط اقتصادية من قبل الصين للتحفيز، ومن أجل تحقيق النمو الاقتصادي المنشود عند 5 بالمئة هذا العام.
- هنالك أيضاً الخطوة الروسية الممثلة في وقف صادراتها سواء البنزين والديزل منخفض الكبريت، وهذا يضغط بدورع على الأسعار، لأن المصافي في هذه الحالة في حاجة لكميات أكبر من النفط لتعويض الفاقد الروسي (..).
ويضيف: "هذه العوامل مجتمعة في مقاومة المخاوف التي تلف الاقتصاد العالمي نتيجة الرفع المتكرر لأسعار الفائدة، ولهجة الفيدرالي الأميركي والمركزي الأوروبي بشأن احتمالية استمرار هذه السياسة حتى العام 2025، وبما يعزز نظرة تشاؤمية بالأسواق".
ووفق بيانات الجمارك، ارتفعت واردات النفط الخام الصينية، في أغسطس، مع زيادة المصافي للمخزونات وارتفاع عمليات التكرير للاستفادة من الأرباح الأعلى التي يدرها تصدير الوقود.
- شحنات الشهر الماضي إلى الصين، أكبر مستورد للنفط في العالم، بلغت 52.8 مليون طن أو 12.43 مليون برميل يوميا (ووفقا لحسابات رويترز فإن هذا هو ثالث أعلى معدل يومي على الإطلاق)
- زادت الواردات 20.9 بالمئة من يوليو، وارتفعت على أساس سنوي 30.9 بالمئة. وفي الشهور الثمانية الأولى من العام زادت الواردات 14.7 بالمئة مقارنة بالفترة نفسها قبل عام إلى 379 مليون طن.
- وزادت واردات الصين عن العام الماضي منذ أن تحرر الطلب المحلي على الوقود من القيود واسعة النطاق التي كانت مفروضة لمكافحة وباء كورونا.