تسعى السلطات التركية جاهدة لاستقرار سعر صرف الليرة أمام الدولار الأميركي، وتعويض سلسلة الخسائر الواسعة التي منيت بها تحت وطأة السياسات المالية والنقدية المتبعة، علاوة على آثار التطورات الجيوسياسية التي يشهدها العالم.

وفي سبيل ذلك، وبعد فوز الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في مايو الماضي، بولاية جديدة، ومع تعيين وزير جديد للمالية ومحافظة جديدة للبنك المركزي ليقودا تحولا في السياسة النقدية، اتُخذت سلسلة من القرارات والإجراءات الجديدة، الهادفة إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي.

آخر تلك الإجراءات، أوقف البنك المركزي الأهداف المطبقة على البنوك والمتعلقة بتحويل قدر معين من الودائع بالعملات الأجنبية إلى ودائع بالليرة تتمتع بالحماية من تقلبات سعر الصرف.

يهدف الإجراء الجديد إلى زيادة الودائع بالليرة التركية مع تقليل الودائع المتمتعة بالحماية من تقلبات سعر الصرف.

كما رفع المركزي نسب الاحتياطيات التي ينبغي على البنوك الاحتفاظ بها من أجل الودائع بالعملات الأجنبية، وهو إجراء قد يدفع العملاء بقدر أكبر نحو التحول إلى الودائع العادية.

أخبار ذات صلة

تركيا.. مخاوف بنكية من أضرار الابتعاد عن سياسة حماية الليرة
تركيا توقف تحويل الودائع بالعملة الأجنبية إلى ودائع محمية

خسائر الليرة

يقول كبير استراتيجي الأسواق في BDSwiss MENA، مازن سلهب، في تصريحات لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن الليرة التركية خسرت قرابة نصف قيمتها تقريبا مقابل الدولار الأميركي في العام 2023، بعد أن وصلت اليوم إلى 27.16 ليرة مقابل الدولار، وهذه أدنى مستويات تاريخية فيما يخص الليرة التركية.

ويضيف: من الواضح أن البنك المركزي التركي متجه إلى رفع الفائدة أكثر في الاجتماع المقبل (تستقر الفائدة حالياً عند 17.5 بالمئة)، وعليه فهو (المركزي) يعمل على تحقيق هدفين:

  • الهدف الأول: جعل سوق الصرف أكثر شفافية وخاضعة للعرض والطلب بعيداً عن التدخلات السياسية.
  • الهدف الثاني: تعويض التراجع المتوقع بعد قرار وقف تحويل الودائع الأجنبية إلى العملة المحلية مع قراره الموازي برفع متطلبات الاحتياطي الإلزامي لدى البنوك التركية، وهذا سيجعل إيداعات هذه البنوك أعلى من العملات الأجنبية.

وخلال اجتماعين للمركزي بقيادة الرئيسة الجديدة للبنك، حفيظة غاية أركان، رفع البنك الفائدة بواقع 900 نقطة أساس (إلى 17.5 بالمئة) وهي وتيرة أقل من التوقعات بعد تراجع الرئيس التركي عن سياسته التي خالف من خلالها اتجاهات البنوك المركزية الكبرى فيما يخص اعتماد سياسة نقدية أكثر تشدداً لكبح جماح التضخم من خلال رفع أسعار الفائدة.

وأعلن المركزي التركي عن أنه سوف يواصل بشكل تدريجي السياسة النقدية المتشددة، كلما تطلب الأمر ذلك، حتى حدوث تحسّن كبير في توقّعات التضخّم.

ويشدد سلهب على أن "تبعات هذه القرارات قد تكون تراجعاً سريعاً في الليرة التركية قبل الاستقرار التدريجي، هذا الاستقرار الذي سيأتي مع رفع الفائدة وعودة الإيداعات للاستقرار بالليرة التركية مدعومةً بفائدة أعلى".

ويعتقد بأن بقاء أسعار الطاقة عند هذه المستويات سيجعل من تراجع التضخم التركي أكثر صعوبة، ويضاف إليه التراجع الحالي بالليرة التركية.

تشير أحدث بيانات التضخم عن شهر يوليو الماضي، إلى ارتفاع نسبته 9.49 بالمئة، في أعلى وتيرة شهرية خلال عام، بفعل زيادات الضرائب المختلفة والانخفاض الحاد لقيمة الليرة.

وبحسب معهد الإحصاء التركي، فإن التضخم السنوي لأسعار المستهلكين ارتفع إلى 47.83 بالمئة، بعد التراجع لثمانية أشهر ليصل إلى 38.21 في يونيو، وسط عوامل من بينها استقرار الليرة نسبيا حتى إعادة انتخاب إردوغان.

والشهر الماضي، أقرت تركيا رفع ضريبة القيمة المضافة نقطتين مئويتين في فئتين كما زادت الضريبة المفروضة على القروض المصرفية الشخصية.

أخبار ذات صلة

لأول مرة منذ عامين.. فائض في الحساب الجاري التركي
تركيا توقف استخدام بطاقات الائتمان لأغراض السفر للخارج

معدلات التضخم

وفي تصور سلهب، فإن ارتفاع التضخم قد يؤدي مجدداً إلى تحديات كبيرة اجتماعية وسياسية على الرئاسة التركية والتراجع التدريجي في عائد السندات الحكومية مع ارتفاع سعرها وزيادة المخاطر الداخلية.

لكن الشيء الإيجابي – بحسب كبير استراتيجي الأسواق في BDSwiss MENA- أن احتياطات النقد الأجنبي في تركيا ارتفعت مجدداً الأسبوع الماضي ووصلت 75 مليار دولار تقريباً، لكنها في الوقت نفسه كانت أعلى من ذلك بكثير في 2017 / 2018 (100 مليار دولار تقريباً) وكذلك 110 مليار دولار تقريباً في 2015.

وتشير تقديرات البنك الدولي في تقريره الصادر في أبريل الماضي، إلى تحقيق الاقتصاد التركي نمو بنسبة 3.2 بالمئة في 2023، وذلك بعد توقعات سابقة بنمو نسبته 2.7 بالمئة فقط.

 ورفع البنك الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد التركي للعام 2024 بنسبة 4.3 بالمئة بدلا من 4 بالمئة في وقت سابق، وتوقع نسبة 4.1 بالمئة في العام 2025.

ويلفت سلهب إلى أن ما تحتاجه الليرة التركية حالياً أكثر من مجرد قرار بنك مركزي، فهي تحتاج إلى طمأنة المستثمرين الدوليين على استقرار السياسات النقدية، كما أنها بحاجة الى إعادة تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

ويختتم سلهب حديثه بقوله: "لن نستغرب وصول الليرة التركية وتراجعها إلى 30ليرة لكل دولار قبل أن تستقر، علماً بأن جعل الليرة خاضعة للعرض والطلب دون تدخل البنك المركزي قد يفتح المجال للمزيد من التراجع التدريجي والمضاربات القاسية في المدى القصير والمتوسط".

وتنتظر العملة التركية سيناريوهات متباينة، وقد وضع مؤشر بنك الاستثمار الياباني "نومورا" تركيا ضمن مجموعة من الدول التي ستواجه أزمة عملة خلال الأشهر الـ12 المقبلة

وفقدت العملة التركية نحو 30 بالمئة من قيمتها منذ بداية العام (في يونيو فقط تراجعت العملة بأكثر من 20 بالمئة على وقع إشارات آنذاك بشأن التراجع عن السياسات التيسيرية، واعتماد سياسات أكثر تقليدية).

أخبار ذات صلة

تركيا.. خطوات "بطيئة وحذرة" للسيطرة على التضخم
العجز التجاري التركي يتقلص إلى 5.16 مليار دولار في يونيو

معالجة تراجع المؤشرات

من جانبه، يقول الباحث المتخصص في الشأن التركي، كرم سعيد، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن قرار وقف تحويل الودائع من العملة الأجنبية للعملة المحلية مرتبط باستمرار تركيا في تبني سياسات تستهدف معالجة التراجع في مؤشرات الاقتصاد.

ويوضح أن هذا الإجراء يكشف عن حدود النتائج التي تبنتها الإدارة المالية الجديدة  سواء وزير المالية ومحافظة البنك المركزي، في محاولة تخطي التدهور الحادث في سعر صرف الليرة التركية، وبالتالي يبدو أن تركيا في طريقها إلى مزيد من الإجراءات المالية المتشددة، في محاولة لكبح جماح التراجع الحادث في سعر صرف العملة.

ويلفت سعيد في الوقت نفسه إلى أن هذه الخطوة ربما تسعف الليرة واستقرارها نوعا ما، لكن لا تزال تركيا بحاجة إلى العودة إلى السياسات الاقتصادية التقليدية، خاصة أن السياسة التي تبناها الرئيس أردوغان، من وجهة نظر المستثمرين الغرب كانت خاطئة، وهي السياسة المتعلقة بخفض سعر الفائدة.

ويرى الباحث المتخصص في الشأن التركي، أن الإدارة المالية الجديدة تسعى إلى تدارك هذا الأمر، مشددا على أن السياسة التي اتبعها الرئيس التركي هي وجهة نظر لها قدر كبير من الأهمية، لكنها لا تتناسب مع العقلية المالية الغربية.

ويختتم سعيد حديثه بقوله: "أعتقد بأن السياسات النقدية الجديدة سوف تحتاج بعض الوقت.. ربما تنجح هذه السياسات الجديدة التي يتبعها وزير المالية محمد شيمشك ومحافظة البنك المركزي في تعزيز وضع الليرة، لكن ربما يحتاج ذلك مزيداً من الوقت على مدار الشهور المقبلة