آفاق اقتصادية صعبة تلف مصير الاقتصاد السوري، في خطٍ متوازٍ مع مجموعة من التحديات والأزمات المتراكمة، وسط شكوك حول مدى قدرة دمشق بمفردها على التعامل مع تلك الأزمات، ورهانات على استثمارها للانفتاح في علاقاتها الخارجية، لا سيما مع محيطها العربي، من أجل دعم الاستثمارات ومشاريع التنمية كطوق نجاة مُنتظر.
تلقت سوريا، التي ترزح تحت وطأة الحرب والدمار منذ العام 2011، جُملة من الضربات القاصمة المتلاحقة، فإلى جانب تداعيات الأزمات السياسية والأمنية بالبلاد، عانت كذلك -كغيرها من دول العالم- من أزمات خارجية واسعة المدى بداية من تداعيات جائحة كورونا ووصولاً إلى الحرب في أوكرانيا وانعكاساتها الممتدة على مختلف القطاعات، فضلاً عن الأوضاع الداخلية الضاغطة وما خلفه زلزال السادس من فبراير من آثار مُدمرة.
وبين الارتدادات السلبية للأزمات الدولية والأوضاع والسياسات الداخلية شديدة التعقيد وحتى الكوارث الطبيعية، يواصل الاقتصاد السوري دفع فاتورة باهظة أفقدت العملة المحلية 99 بالمئة من قيمتها في السوق السوداء منذ بداية النزاع.. فإلى أي مدى يمكن الخروج من ذلك المشهد المعقد؟ وما هي الأدوات التي يمكن من خلالها مواجهة تلك التحديات؟
الرئيس السوري، بشار الأسد، ذكر في حواره مع "سكاي نيوز عربية" مساء الأربعاء، أن بلاده تمكنت "بعدة طرق" من تجاوز قانون قيصر، وهو ليس العقبة الأكبر، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن:
- صورة الحرب تمنع أي مستثمر من القدوم للتعامل مع السوق السورية.
- العقبة الأكبر هي تدمير البنية التحتية من قبل الإرهابيين.
- العقبة الأكبر أيضاً هي الزمن، بالاقتصاد تستطيع أن تضرب علاقات اقتصادية وتهدمها خلال أسابيع أو أشهر ولكنك بحاجة أيضاً لسنوات لاستعادتها.
- من غير المنطقي والواقعي أن نتوقع أن هذه العودة وهذه العلاقات التي بدأت تظهر بشكل أقرب إلى الطبيعي ستؤدي إلى نتائج اقتصادية خلال أشهر، هذا كلام غير منطقي، بحاجة للكثير من الجهد والتعب لكي نصل لهذه النتيجة.
مؤشرات سلبية على جميع النواحي
يقول كبير استراتيجي الأسواق لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في BDSwiss مازن سلهب، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن "سوريا بمفردها لن تستطيع تجاوز الوضع الاقتصادي الراهن"، ويلفت إلى عددٍ من المؤشرات التي تعكس طبيعة الوضع الاقتصادي بالبلاد، من بينها معدلات التضخم، والتي يشير إلى أنها بلغت في وقت سابق مستويات 140 بالمئة، ضمن أسوأ معدلات التضخم على المستوى العالمي.
ويُشار هنا إلى أن المدير الأسبق للمكتب المركزي للإحصاء شفيق عربش، كان قد ذكر أن معدل التضخم في 2022 تجاوز الـ 150 بالمئة.
وكان البنك الدولي، في تقرير سابق له في الربع الأول من العام الجاري، قد توقّع أن "يزداد معدّل التضخّم بنسبة عالية، والسبب الرئيسي في ذلك النقص في السلع المتوفّرة، وزيادة تكاليف النقل، وارتفاع الطلب الكلّي على مواد إعادة البناء".
كما يتحدث سلهب في الوقت نفسه عن الخسائر الواسعة التي مُنيت بها الليرة السورية على مدار السنوات الماضية، أمام الدولار الأميركي، فضلاً عن تراجع القدرة الشرائية، وبما ينعكس على معيشة المواطن السوري الذي يعاني من مستويات المعيشة المتراجعة، في وقت لا يعد فيه رفع الأجور حلاً، مشدداً على أن "الحكومة في وضع صعب جداً، على اعتبار أن تراجع الليرة أسرع بكثير من قدرة الحكومة على رفع الرواتب".
- خلال الشهرين الماضيين فقدت الليرة السورية أكثر من ثلث قيمتها.
- تواصل الليرة تدهورها القياسي بعد أن تجاوزت عتبة العشرة آلاف مقابل الدولار (وفق تطبيقات إلكترونية تراقب حركة العملة)، فيما ذكرت تقارير أن أحدث سعر كان في حدود 14500 مقابل الدولار الواحد، في السوق الموازية.
- منذ بدء النزاع، تدهور سعر صرف الليرة بنسبة 99 بالمئة في السوق السوداء.
ضعف الإنتاجية
ويوضح كبير استراتيجي الأسواق لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في BDSwiss أن الأزمة تتفاقم مع غياب المصادر الحقيقية للعملة والإنتاجية بشكل كبير، علاوة على أنه "لا توجد قدرة واسعة للحكومة على الوصول بشكل كامل لآبار النفط والثروات المتوافرة، إضافة إلى القيود القاسية التي تعاني منها سوريا تحت وطأة قانون قيصر، جنباً إلى جنب وسياسات داخلية تعيق في بعض الأحيان حركة الإنتاج (..)".
ويضيف سلهب: "الاقتصاد السوري بحاجة ماسة إلى إعادة هيكلة كاملة حتى الوصول إلى إنتاج حقيقي غائب الآن.. سوريا تستورد كل شيء، وقيمة الليرة في تراجع مستمر، والمستهلك هناك يتحمل تبعات هذا التراجع بشكل مباشر، وهو في النهاية من يدفع الثمن".
- حدد مصرف سوريا المركزي سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي للحوالات والصرافة بـ 10100 ليرة للدولار الواحد، بحسب وكالة الأنباء الرسمية.
- وفقاً لنشرة الحوالات والصرافة الصادرة، الثلاثاء، عن المركزي تم تحديد سعر صرف الليرة السورية مقابل اليورو بـ 11086.27 ليرة سورية لليورو الواحد.
- كان المركزي حدد في الـ 18 من الشهر الماضي سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي للحوالات والصرافة بـ 9900 ليرة للدولار، و 11139.98 ليرة سورية لليورو.
ويتحدث سلهب في السياق نفسه عن ما يعكسه "الانفتاح العربي على سوريا" من فرص، بقوله: "عودة سوريا للعرب مهمة سياسياً واقتصادياً.. لكن هذا الانفتاح من الضروري أن ينعكس في استثمارات عملاقة بمشاريع البنية التحتية ومليارات الدولارات يتم ضخها في السوق السورية.. وبخلاف ذلك، سيكون التعافي بطيئاً جداً".
ويستطرد: "هناك بنية تحتية مهدمة في جزء كبير جداً منها في سوريا، وهناك مؤسسات وشركات أصبحت عاجزة بشكل كبير.. وحتى تصل سوريا إلى إنتاج حقيقي يتعين ضخ استثمارات واسعة هناك.. سوريا وحدها ستكون عاجزة عن التعافي السريع".
شراكات لتخفيف الحصار
من جانبه، فإن المستشار في رئاسة مجلس الوزراء السوري، عبدالقادر عزوز، يشير في هذا السياق إلى ما ذكره الرئيس الأسد خلال مقابلته مع "سكاي نيوز عربية"، موضحاً أن "سوريا استطاعت نوعاً ما من خلال بناء شراكات مع بعض الدول، سواء دول الجوار وغيرها من الدول، العمل على إيجاد آلية لتقليل أو تخفيف إجراءات الحصار الاقتصادي المفروض عليها".
ويضيف: "لكن العقبة الرئيسية -وكما أشار الرئيس الأسد- تتمثل في تدمير البنية التحتية، وأيضاً الصورة الذهنية، والانطباع الذي لا يزال لدى كثير من المستثمرين بشأن الوضع في سوريا، خاصة أن المستثمر يبحث عن ملاذ آمن وبيئة مستقرة".
ويضيف عزوز في تصريحاته لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قائلاً: "لذلك رغم أن الدولة السورية أصدرت قانون الاستثمار رقم 18 لسنة 2021 وكذلك القانون رقم 2 للعام 2023 المتضمن تعديلات على بعض أحكام قانون الاستثمار رقم 18 للعام 2021 لتقليل الصعوبات والتقييدات المؤسساتية من أجل تحفيز الاستثمار وخلق بيئة جاذبة للمستثمرين، إلا أن الدعاية الإعلامية ما تزال إلى الآن تخيف المستثمرين ولا تدفعهم إلى النشاط الاقتصادي، بالإضافة إلى التكاليف العالية لإعادة ترميم البنية التحتية المدمرة خلال سنوات الحرب الإرهابية على سوريا".
- تشير تقديرات البنك الدولي، في مارس الماضي، إلى أنه من المتوقّع أن "يزداد انكماش إجمالي الناتج المحلّي بمقدار 2.3 نقطة مئوية" في سوريا، ليصل الانكماش إلى 5.5 بالمئة في 2023.
- وفق تقديرات البنك الدولي، فإن النمو الاقتصادي قد يشهد "مزيداً من الانكماش إذا تباطأت أعمال إعادة الإعمار".
- تقرير البنك الدولي ذكر أنّ "الانكماش الإضافي يعود في الدرجة الأولى إلى تدمير رأس المال المادّي وتعطّل النشاط التجاري.
- التقرير أشار إلى "محدودية الموارد العامّة، وضعف الاستثمارات الخاصّة، وقلّة المساعدات الإنسانية التي تصل إلى المناطق المتضرّرة".
انهيار الليرة
وإلى ذلك، يقول الكاتب الصحافي، العضو السابق في مجلس الشعب السوري، شريف شحادة، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن "الوضع الاقتصادي في سوريا لا يسر عدواً ولا صديقاً.. في السنوات الثلاثة الأخيرة بدأ الاقتصاد السوري يتراجع بشكل ملحوظ، ومنذ بداية العام الجاري أصبح الوضع يزداد خطورة في ظل تسارع وتيرة هبوط الليرة".
ويضيف: "السوق السورية أصبحت بحاجة ماسة لبضائع كثيرة، وهذا بسبب ما فرضه الحصار الخارجي، إضافة إلى بعض القرارات التي تتخذها الحكومة دون دراسة ودون الانتباه إلى أن هناك أزمة في سوريا.. أضف إلى ذلك أن المنطقة التي سيطرت عليها الولايات المتحدة هي المنطقة الأكثر ثراءً في سوريا، وهي المنطقة التي تحتوي على النفط والقمح والقطن السوري، وبالتالي فإن الغلة السورية الكبيرة كانت في تلك المناطق".
ويتابع شحادة: "سوريا لم تستطع أن تجلب العملة الصعبة لخزائن الحكومة، ومع توقف كل النشاطات الاقتصادية بالبلد، حيث لم يعد هناك تصدير على المستوى المأمول به ولم تعد هنالك حركة سياحية ولم يعد هناك بناء (..) نحن أمام أزمة حقيقية واسعة".
وكان منسق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة، مارتن غريفيث، قد حذر من أن الأزمة في سوريا دفعت نحو 90 بالمئة من سكانها إلى ما دون خط الفقر، بسبب نقص التمويل.
ويقول الكاتب الصحافي السوري: "نأمل كسوريين أنه من الممكن أن يتحرك الأخوة العرب بعد عودة سوريا، ويقوموا باستثمارات واسعة (من شأنها مساعدة سوريا على الخروج من الأوضاع الاقتصادية الحالية) لكن حتى اللحظة لم يحدث جديد"، موضحاً في الوقت نفسه أن "هناك أزمة اقتصادية تضرب العالم كله، بينما سوريا تأثرت بشكل كبير، جنباً إلى جنب والعوامل الداخلية المرتبطة ببعض مواطن الفساد في بعض المرافق الاقتصادية (..)".