تولي روسيا اهتماماً خاصاً بعلاقاتها مع دول القارة الأفريقية، والتي تجمعها بها مصالح مشتركة، لا سيما في ضوء العلاقات التاريخية الممتدة، رغم التحديات الواسعة التي تواجه تلك العلاقات، من بينها المنافسة العميقة مع أطراف ومحاور إقليمية ودولية على الأراضي الأفريقية.
وتسعى روسيا إلى تعميق تعاونها التجاري والاقتصادي مع دول القارة، لكسر حاجز الـ 20 مليار دولار وبلوغ مستويات أعلى تتوافق مع تلك العلاقات. وقد عبّرت موسكو عن ذلك عملياً من خلال عديد من الفعاليات المشتركة مع دول القارة، فضلاً عن الزيارات والجولات الخارجية لمسؤولين روس خلال الفترات الأخيرة، من بينها مجموعة الجولات التي قام بها وزير الخارجية سيرغي لافروف، والتي عبر فيها عن ما توليه موسكو من اهتمام بتعزيز تلك العلاقات، في وقت تواجه فيه روسيا ضغوطات غربية واسعة على وقع الحرب في أوكرانيا.
واحدة من بين أهم المحطات المرتقبة على صعيد العلاقة بين روسيا وأفريقيا، هي القمة الروسية الأفريقية التي تعقد بنهاية يوليو في سانت بطرسبرغ، وهي الثانية من نوعها بعد قمة سوتشي الأخيرة، والتي تزيدها زخماً "أزمة الحبوب" الحالية بعد انهيار اتفاقية الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود.
- الرئيس الرئيس فلاديمير بوتين أكد أن بلاده قادرة على تعويض صادرات الحبوب الأوكرانية إلى إفريقيا على أساس تجاري أو مجاني، خصوصا أننا نتوقع مجددا محصولا قياسيا هذا العام
- المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، قال إن بلاده تواصل الاستعداد لإمداد الدول المحتاجة بالحبوب الروسية مجاناً، بديلاً للحبوب الأوكرانية.
- كشف عن أن مسألة توفير الحبوب من روسيا لإفريقيا ستناقش خلال القمة الروسية الإفريقية المقررة نهاية يوليو الجاري. وقال: نحن على تواصل مع شركائنا الأفارقة، وسيستمر التواصل خلال قمة سان بطرسبرغ.
كما يُعول على تلك القمة وضع أطر تنفيذية للبناء على ما تم الاتفاق عليه خلال القمة الأخيرة وخلال الزيارات المتبادلة بين الجانبين على مدار الفترات الماضية، من أجل البناء لحقبة جديدة من العلاقات، يلعب فيها الجانب الاقتصادي ركناً أساسياً في سياق المصالح المشتركة التي يصبو إليها الطرفان.
- في العام 2019، انعقد المنتدى الاقتصادي الروسي الأفريقي الأول في مدينة سوتشي، تحت شعار "من أجل السلام والأمن والتطور".
- حضر المؤتمر الأول ممثلون عن 54 دولة أفريقية. وقد بلغ عدد الدعوات حوالي 10 آلاف مشارك.
- شهد المؤتمر تحديد المحاور الرئيسية لمحالات التعاون الاقتصادي المشتركة وبما يخدم مصلحة الجانبين، وبهدف تطوير التعاون لتحقيق نتائج ملموسة على الأرض.
- تركزت المناقشات على الفرص المتاحة في قطاعات البنية التحتية والتعدين الحديث ومعالجة المعادن والزراعة والتكنولوجيا الرقمية والاستكشاف والعلوم والتعليم.
دوافع اقتصادية
يقول خبير الشؤون الأفريقية، رامي زهدي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "في ظل الظروف التي يشهدها العالم حالياً فإن كل محركات الأمور السياسية والصراعات في العالم وحتى دوافع التوغل الاستراتيجي أو التمدد التي تحدث بين أطراف دولية مختلفة وفي مناطق بعينها، ومن بينها القارة الأفريقية، جميعها لها خلفية اقتصادية في الأساس".
ويضيف: "الآن تحديداً وفي ظل ظروف صعبة تواجه العالم، فإن الجميع يتجه نحو التكامل أو العلاقات التشاركية الاقتصادية.. روسيا في هذا السياق تعتبر أن أفريقيا أصبحت بالنسبة لها ليست فقط امتداداً استراتيجياً ولكن امتداد اقتصادي، بحيث يعمل في القارة عدد كبير من الشركات الروسية، كما بلغ حجم التجارة البينية بين روسيا وأفريقيا في السنوات الأخيرة حوالي 20 مليار دولار سنوياً في المتوسط، وبلغت الاستثمارات المباشرة أكثر من 40 مليار دولار مع عدد من الدول الأفريقية، بخلاف المساعدات الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة، وكذلك إلغاء ديون بأكثر من 20 مليار دولار".
وتبزغ مجموعة من الشركات الروسية البارزة العاملة في أفريقيا، والتي تنشط في قطاعات مختلفة، من بينها في قطاع التعدين مثل شركة ألروسا المختصة في الألماس، وفي مجال الطاقة مثل شركة لوك أويل، صاحبة النشاط البارز بالقارة، علاوة علىشركة روساتوم، التي تتولى مهمة إنشاء محطة نووية في مصر (محطة الضبعة).
ويعتقد بأن التقارب على المستوى الاقتصادي بين روسيا ودول القارة الأفريقية حالياً، له عديد من الدوافع الأساسية؛ أهمها:
- روسيا ترى أنها دولة عظمى اقتصادياً وسياسياً، ويتعين أن تؤمن لنفسها نطاق أعمال كبير.
- تبعاً لذلك؛ تنظر روسيا إلى أفريقيا على اعتبار أنها نطاق أعمال مهم للشركات والاستثمارات والبضائع الروسية.
- كما تبحث روسيا عن إنهاء هيمنة الدولار الأميركي، وهي بذلك تجد في العلاقات الثنائية التشاركية مع دول القارة كل على حدة، ومع الاتحاد الأفريقيي عموماً، فرصة لاستبدال الدولار (ويشير هنا إلى عملة البريكس).
- روسيا تجد أيضاً أن أفريقيا التي تعاني من أزمة نقص الغذاء وتعتمد في جزء كبير على استيراد الغذاء من روسيا، فرصة جيدة بالنسبة لها لإقامة علاقات قوية على الصعيد الاقتصادي.
- روسيا التي ربما تعاني مستقبلاً من صراع عالمي دولي كبير وبينما تواجه عقوبات اقتصادية، تجد في القارة بديلاً أو حلاً إيجابياً.
قطاع الطاقة
ويلفت في الوقت نفسه إلى أن أفريقيا ليست كياناً واحداً، وإنما عشرات الدول، كما تتمتع بقدرات وكذلك احتياجات مختلفة، وتستطيع موسكو التعاون مع تلك الدول على ملفات متصلة منفصلة، وقد أنتجت فرصاً كبيرة للتعاون بينها وبين دول القارة، وتتواجد في نطاقات جغرافية عديدة هناك (..) لا يمكن القول إنها تتواجد اقتصادياً واستراتيجياً في نطاق معين، لكن هي موجودة في مصر وفي الجزائر وفي أثيوبيا وفي نطاقات مختلفة بالقارة، ولديها مشروعات خاصة عبر الشركات الروسية، في قطاعات مختلفة مثل الطاقة والطاقة المتجددة والطاقة النووية.
وكان سفير المهام الخاصة بوزارة الخارجية الروسية رئيس أمانة منتدى الشراكة الروسية الأفريقية، أوليغ أوزروف، قد أشار قبيل أسابيع في تصريحات نقلتها تقارير إعلامية، أن ثمة فرصاً مختلفة بالنسبة لروسيا من أجل تطوير العلاقات مع دول القارة، وبشكل خاص في قطاعات الطاقة.
وفي هذا السياق، نقلت وكالة "سبوتنيك" الر وسية عن رئيس غرفة الطاقة الأفريقية، أندريه أيوك، قوله إن روسيا يمكن أن تلعب دوراً رائداً في دعم مشاريع الطاقة بالقارة الأفريقية.
تضاف إلى ذلك العلاقات العسكرية، ذلك أنها تقوم ببيع وتزويد دول عديدة من القارة بالسلاح وهذا يمثل عائداً اقتصادياً قوياً بالنسبة لروسيا التي تساعد أحياناً أيضاً في معالجة ميزانيات بعض الدول الأفريقية أو مدها بقروض ميسرة. وتبعاً لذلك فإن الجانب الاقتصادي مرجح له التنامي بشدة ما بين الاتحاد الروسي والقارة في السنوات المقبلة.
تحديات
لكن زهدي في الوقت نفسه يرصد مجموعة من التحديات التي تواجه تلك العلاقات؛ وأهمها أن روسيا ليست اللاعب الأوحد، ذلك أن هناك متنافسين كثر على الساحة، وكل منهم يمتلك أدواته الخاصة، مردفاً: "الأمر أكبر من كونه علاقات اقتصادية؛ لأن هذه العلاقات الاقتصادية تحتاج إلى غطاء سياسي قوي وتواجد استراتيجي فعال.. بالتالي الطريق لا تبدو ممهدة أمام موسكو تماماً، في ضوء هذا التنافس الدولي الذي لم يترك روسيا تعزف منفردة".
- في العام 2018 بلغ حجم التبادل التجاري بين دول القارة وروسيا ذروته، وذلك بتحقيق أكثر من 20 مليار دولار، وهو معدل ضعيف نسبياً.
- بلغ حجم التبادل التجاري في 2022 بين الجانبين حوالي 18 مليار دولار، طبقاً لما أكده الرئيس بوتن، في الجلسة العامة للمؤتمر البرلماني الدولي "روسيا وأفريقيا في عالم متعدد الأقطاب".
- كان الرئيس بوتن قد قال في وقت سابق، إن روسيا ستتبرع بـ 300 ألف طن من الأسمدة المحجوزة في لاتفيا وإستونيا وبلجيكا وهولندا، إلى الدول الأفريقية والفقيرة.
- ألغت موسكو 20 مليار دولار من الديون المستحقة على عدد من الدول الأفريقية، الأمر الذي عده محللون تشجيعاً لدخول مرحلة جديدة من العلاقات، وبما يخدم المصلحة المشتركة للجانبين.
تأثير اتفاقية الحبوب
وبالعودة لحديث زهدي، وفيما يخص اتفاقية الحبوب، فإنه يرى أن "انسحاب روسيا من الاتفاقية من شأنه أن يدفع بأداة جديدة من أدوات التوغل الروسي في أفريقيا؛ ذلك أن موسكو ستستخدم ملف الحبوب في توطيد علاقاتها بشكل أكبر مع دول القارة بعد أن تحررت من الاتفاقية المذكور، وأصبحت عملياً جهة مانحة أو مانعة للحبوب لمن تشاء".. ويلخص المختص بالشؤون الأفريقية وجهة نظره في هذا السياق، بقوله:
- انسحاب روسيا من الاتفاقية يبدو نظرياً مؤشراً سلبياً على دول القارة، لكن عملياً سيمثل ذلك أداة روسية جديدة للتعامل مع أفريقيا.
- عقيدة العلاقات الخارجية الروسية الجديدة استُخدم فيها أكثر من مرة مصطلحات مثل (الدول الصديقة) و(الدول غير الصديقة)، وبعد الانسحاب من اتفاقية الحبوب سيكون بإمكان روسيا التركيز بشكل أساسي (في منح هذه الحبوب) للدول الصديقة.
- يتيح ذلك لروسيا أن توقع اتفاقات ثنائية بشأن الحبوب مع عددٍ من الدول الصديقة في أفريقيا (بعد ترتيب الدول من جهة دول صديقة أو أكثر صداقة وحتى الدول غير الصديقة).
- أعلنت روسيا في وقت سابق -بعد انسحابها من الاتفاقية- عن أنها قد تمنح الحبوب مجاناً للدول الأكثر احتياجاً في أفريقيا. وبالتالي فإن موسكو تستخدم بشكل استراتيجي احتياجات القارة من الحبوب، لا سيما وأن أفريقيا تستورد نحو 40 بالمئة من احتياجاتها من الخارج، لا سيما من روسيا وأوكرانيا بشكل خاص.
تنافس دولي
من جانبه، يقول المحلل الروسي الباحث في جامعة الصداقة بين الشعوب في روسيا، ديمتري بريجع، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن التعاون الروسي الأفريقي مرشح إلة أن يزداد بصورة كبيرة في المرحلة المقبلة، موضحاً أن موسكو تبدي اهتماماً واسعاً لفرض هيمنتها في القارة، والتنافس مع فرنسا والغرب عموماً هناك.
ويضيف: "وتيرة التنافس -على مختلف الصعد- داخل القارة الأفريقية سوف تزداد خلال السنوات المقبلة بين الصين ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا"، مشدداً على أن القارة "ستكون أحد أهم مناطق التنافس والسيطرة والنفوذ بشكل واضح".
ويعتقد بأن أفريقيا سوف تواجه مجموعة من المشكلات والصعوبات جراء هذا التنافس، بما في ذلك خلافات داخلية قد تتعرض إليها، متوقعاً في الوقت نفسه زيادة معدلات التعاون التجاري بين روسيا ودول أفريقية، آخرها الجزائر بعد زيارة الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، إلى موسكو، وبالتالي "نتوقع طريقاً جديدة لروسيا نحو الشرق".
ويشدد على أن الجانب الروسي يسعى إلى دفع العلاقات التجارية والاستثمارية مع القارة، وقد عمل على ذلك من خلال توقيع مجموعة من الاتفاقات الاقتصادية في قطاعات مختلفة بما في ذلك قطاع البنية التحتية والطاقة والتعدين والزراعة.