تُبدي أوروبا إصراراً واضحاً على المضي قدماً في دعمها لأوكرانيا، والانخراط بشكل فاعل ومؤثر ضمن السياسة الأميركية تجاه الحرب الراهنة، رغم الكلفة الباهظة التي تتحملها جراء دعمها لكييف مادياً وعسكرياً، علاوة على الضرر البالغ الذي مُنيت بها اقتصاداتها على نحو متفاوت جراء العقوبات المفروضة على روسيا والتي انعكست على معظم دول منطقة اليورو.
لكنّ على الجانب الآخر، فإن عديداً من السياسيين الغربين الواقعيين، والذين يتحمسون لإنهاء الحرب، ينادون بضرورة إبقاء الخطوط مفتوحة مع روسيا، وبما يمكن من خلالها تحقيق اختراقات على مسار أي مفاوضات قادمة لإنهاء الحرب، وتقليص فرص تصعيد المواجهة.
وكذلك من أجل التوصل لتفاهمات اقتصادية حول القضايا الرئيسية، مثل ملف "تصدير الحبوب" وغيرها من الملفات التي يُمكن معالجتها بتقديم تنازلات محدودة أو التوصل لاتفاقات مرضية لجميع الأطراف.
وقد عكس انهيار اتفاق الحبوب عبر البحر الأسود، بعد إعلان روسيا تعليق مشاركتها في الاتفاق، الحاجة الماسة إلى وجود قنوات اتصال أوسع بين الغرب وأوروبا، تساعد على التوصل لتفاهمات مباشرة حول عديد من القضايا الأساسية.
مخاوف أوكرانية
على الجانب الآخر، فإن الأوكرانيين يخشون من أن تُشكل خطوط الاتصال تلك مساحة للتخلي عن كييف والتوصل لصفقة غير مرضية لها، وهو ما أظهرته بوضوح ردود الأفعال الأوكرانية على المحادثات التي تم الكشف عنها أخيراً، والتي تمت بين مسؤولين أميركيين سابقين اجتمعوا مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في نيويورك في أبريل وانضم إليهم ريتشارد هاس الدبلوماسي الأميركي السابق والرئيس المنتهية ولايته لمجلس العلاقات الخارجية، بالإضافة إلى اثنين من المساعدين السابقين بالبيت الأبيض.
الكشف عن تلك المحادثات أدى "لاتهامات بالخيانة"، فبالنسبة للكثيرين في أوكرانيا فإن فكرة الاتصال بممثلي روسيا "فكرة غير معقولة". بينما يخشى آخرون من أن الانغماس في أي اتصال من قبل السياسيين الواقعيين الغربيين المتحمسين لرؤية نهاية الحرب هو "وقوع في فخ روسي يؤدي إلى صفقة رديئة فيها خيانة مصالح أوكرانيا"، بحسب الصحافي البريطاني، إليك راسيل، في مقال له بصحيفة "فاينانشال تايمز" البريطاني.
يعتقد الكاتب بأنه "من الأهمية بمكان أن يكون الغرب قادراً على التأثير على عقلية موسكو من خلال تقديم حقائق قاسية.. تخشى أوكرانيا من بيعها بالكامل، لكن يمكن للولايات المتحدة وحلفائها استخدام المحادثات السرية لإقناع بوتين بتصميمهم".
وقال: "يحتاج الغرب إلى السماح لموسكو بمعرفة مدى جديتنا في تصميمنا.. كما يحتاج إلى تحديد من يمكن التحدث إليه ومن يثق به، بعد سنوات طويلة تم فيها تخفيض قيمة الخبرة الروسية في وزارات الخارجية الغربية".
خطوط اتصال
من بروكسل، يقول خبير الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن "المسؤولين الأوربيين إن كانوا صادقين مع شعوبهم وأنفسهم يتعين أن يبقوا على خطوط الاتصال مفتوحة مع روسيا"، مشيراً إلى أن الأزمة تتمثل في كونهم تابعين للسياسة الأميركية، انطلاقاً من الحماية العسكرية التي توفرها واشنطن لأوروبا وعبر حلف شمال الأطلسي.
ويضيف: "كثير من المسؤولين الأوروبيين، من بينهم مسؤولين سابقين تحدثت معهم، وأحدهم كان وزير دفاع سابق، لديهم قناعة بأن هناك خطأ وقعت به المفوضية الأوروبية فيما يخص تقديم الدعم بشكل واضح وبدون أي تردد لمواقف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والذي من الواضح أنه متورط في تفجير أنابيب نورد ستريم، فضلاً عن إطلاقه شائعات -نفتها وكالة الطاقة الذرية- بشأن وجود متفجرات في محطة زابوريجيا النووية".
ويستطرد: "أعتقد بأنه لو تُرك المسؤولون الأوروبيون وحتى رؤساء الدول والحكومات يتحدثون بشكل شخصي دون ارتباطات سياسية، فإن موقفهم قد يكون مغايراً للمواقف الحالية (في إشارة لالتزام أوروبا بالتبعية للموقف الأميركي فيما يخص روسيا، رغم التبعات السلبية الواقعة على الغرب جراء تلك المواقف)".
ويشير بركات إلى أن "الغرب يتعين عليه أن يبقي خطوط الاتصال مفتوحة مع موسكو، لأن قطع الاتصال يعني التوجه نحو نزاع مسلح مباشر"، مشدداً على أنه من الناحية العملية فإن حلف الناتو مشارك في الحرب بشكل فعال من خلال ما يقدمه من دعم لأوكرانيا.
تصعيد متبادل
وترتفع حدة لهجة التصريحات الروسية والأوروبية إزاء بعضهما البعض. وقد وضعت روسيا أخيراً خطاً أحمر أمام الغرب، قائلة على لسان وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، إن إرسال مقاتلات "إف-16" إلى أوكرانيا خطا أحمر وتجاوزه سيؤدي إلى اصطدام مباشر.
لكن على الجانب الآخر، فإن ثمة ملفات ذات أولوية تحظى بلهجة أقل حدة، مثلما كان يتعلق باتفاق على الحبوب على سبيل المثال، فقد كشفت صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية -قبل انسحاب روسيا من اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود- عن أن الاتحاد الأوروبي يدرس مقترحاً للبنك الزراعي الروسي لإنشاء شركة فرعية تتيح له إعادة الاتصال بالشبكة المالية العالمية كوسيلة لترضية لموسكو.
ووقع اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود في يوليو 2022 في إسطنبول مع روسيا وأوكرانيا برعاية تركيا والأمم المتحدة. وقد سمح بتصدير حوالى 33 مليون طن من الحبوب من أوكرانيا على الرغم من الحرب.
شريان الحياة بالنسبة لأوروبا
من باريس، يقول الكاتب الصحافي نزار الجليدي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إنه "محكوم على العواصم الغربية أن تبقي الأبواب مفتوحة مع روسيا؛ باعتبار أن شريان الحبوب الذي يصل العالم ويصلها أيضاً هو بيد روسيا، علاوة على مسائل الطاقة بعد أن عانت أوروبا من خريف قاسٍ ولا تجد حلولاً ملائمة إلا الشريك الروسي (من ناحية الكميات والأسعار والنقل)".
ويوضح أن مسألة أسعار الحبوب في السوق الدولية "أصبحت مزعجة جداً للاقتصادات الغربية"، ضمن تبعات الأزمة مع روسيا.
ويضيف: "يتعين على الغرب إبقاء القنوات مفتوحة مع موسكو.. هم فعلاً في الكواليس يتناقشون مع الجانب الروسي، رغم الضغوطات الأميركية المسلطة على السلطات الأوروبية، لكنهم (الغرب) مجبرون على الإيقاء بالتزاماتهم (..) الغرب لا يملك حلولاً أخرى إلا النقاش مع موسكو والجلوس معها على طاولة الحوار".
ويشدد على أن الغرب يدرك أن الخاسر الأكبر في تلك المعادلة هو الجانب الأوروبي، بالنظر إلى القرب الجغرافي والعمل الدبلوماسي والاستراتيجي الأساسي مع روسيا، ولذلك "هم مجبرون على الإبقاء على قنوات اتصال مفتوحة".
ويوضح في الوقت نفسه أن روسيا تعيش على نخب اقتصاد حرب، لذلك لا يمكن معاينة الضرر الذي تعرضت له؛ باعتبار أن الاقتصاد الروسي مُجهز أيضاً كاقتصاد حرب، لكن الاقتصاد الغربي ليس كذلك، والدليل على ذلك أنهم يغرقون في مشاكل كثيرة الآن، وخاصة في ظل التزاماتهم المادية تجاه دعم أوكرانيا مالياً وبالسلاح.
من الناحيتين السياسية والاقتصادية -في تقدير الجليدي- لا يُمكن تصنيف روسيا على اعتبار أنها الخاسرة من فقدان تلك العلاقات مع أوروبا، بقدر أن الاتحاد الأوروبي في تراجع كبير من الناحية الاقتصادية، خاصة وأننا إزاء انتفاضات شعبية في الداخل الأوروبي قد تعصف بعديد من الحكومات لاختيارها التبعية للولايات المتحدة في هذه الحرب التي تكلف الاتحاد الأوروبي خسائر مادية واقتصادية وسياسية باهظة.
وفي تحليل سابق نشرته شبكة "بلومبيرغ" عن المتخصص الأميركي في الشؤون العسكرية والأمن القومي توبين هارشو، شدد على أهمية فتح قنوات اتصال بين بين روسيا والغرب، في الوقت الذي يتلخص فيه الموقف الغربي حالياً بأنه أميل إلى ضرورة إعطاء الفرصة لكييف من أجل تحسين موقفها قبل الحديث عن الجلوس على طاولة المفاوضات.
وأشار إلى أنه "منذ شهر مايو الماضي، لا الغرب ولا أوكرانيا حاولوا اختبار مدى استعداد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو ممثليه للجلوس إلى مائدة التفاوض إذا عرضت عليهم".
صفقة كبرى
على الجانب الآخر، تخشى أوكرانيا من أن ينتهي الأمر بها إلى الدخول في صفقة كبرى يتعين عليها بموجبها التخلي عن أهدافها الرسمية المتمثلة في هزيمة روسيا واستعادة السيطرة على جميع أراضيها بما في ذلك شبه جزيرة القرم. ويستشهد بعض المسؤولين في أوروبا بتنازل فنلندا عن 10 بالمئة من أراضيها للاتحاد السوفيتي بعد حرب الشتاء 1939-1940 كمثال لصفقة، وفق الصحافي البريطاني، إليك راسيل.
لكن الكاتب يعتقد بأن "إجراء محادثات سرية وعلى مستويات متعددة أمر ضروري"، موضحاً أن محادثات أبريل "ليست سوى واحدة من عدد من القنوات الخلفية وليست الأكثر أهمية (..) سواء كان هناك هزيمة روسية أو مأزق جديد كما يخشى مؤيدو أوكرانيا بشكل متزايد وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً، ففي مرحلة ما تكون المفاوضات كلها حتمية، وكلما زادت الاتصالات مسبقاً كان ذلك أفضل.