لجأت البنوك المركزية الكبرى حول العالم إلى رفع أسعار الفائدة بأسرع وتيرة منذ تسعينات القرن الماضي، في محاولة لكبح جماح معدلات التضخم التي بلغت مستويات قياسية تحت تأثير تبعات الأزمات التي يواجهها الاقتصاد الدولي، بدءاً من تبعات جائحة كورونا ومن بعدها الحرب في أوكرانيا وما صاحبها من أزمات ممتدة.

رغم ذلك، فإن هذه السياسات لم تؤت بثمارها المرجوة بشكل كامل بعد في الوصول إلى المعدلات المستهدفة أو حدود الأمان بالنسبة لمعدلات التضخم.

وبينما رفع المسؤولون في أكبر 20 اقتصاداً بالعالم بشكل خاص معدلات الفائدة على نحو متسارع منذ أن بدأوا في تشديد تكاليف الاقتراض، لا يتوقع حتى الآن رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، ولا رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، عودة التضخم إلى هدفهما المشترك البالغ 2 بالمئة قبل بداية العام 2025.

أخبار ذات صلة

هل يتدخل بنك اليابان مُجدداً للحد من تدهور "الين"؟
بعد سنوات من الإنفاق المفرط.. ألمانيا تعتمد ميزانية متقشفة

وبينما انخفضت مؤشرات أسعار المستهلكين الرئيسية، يلفت محافظو البنوك المركزية النظر إلى ارتفاع التضخم الأساسي (الذي يستثني الغذاء والطاقة) وأسواق العمل المشددة والضغوط في قطاع الخدمات كدليل على أن الأسعار ستستمر في الارتفاع لبعض الوقت حتى الآن.. وبالتالي فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: "ما الذي يفسر استمرار التضخم في مواجهة الزيادات الحادة في معدلات الفائدة؟".

يذكر تقرير نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية، أن "السياسة النقدية تستغرق وقتاً حتى تظهر تأثيراتها بالكامل على أنماط الإنفاق والأسعار.. عادة ما يستغرق حوالي 18 شهراً لأن تأثير زيادة واحدة في معدل الفائدة ينتشر بشكل كامل على النمط الإنفاقي والأسعار".

بدأ صانعو السياسة النقدية في رفع معدلات الفائدة قبل عام ونصف في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وقبل أقل من عام في منطقة اليورو، وذلك فوق معدل الفائدة المحايد (المستوى الذي لا يؤثر بشكل مباشر في تحفيز النمو الاقتصادي أو تقييده، وهذا يعني أنهم يحاولون تقييد النشاط الاقتصادي والتضخم من خلال زيادة تكلفة الاقتراض).

ويعتقد بعض المصرفيين بأن الفترات الزمنية المطلوبة لتأثير السياسة النقدية قد تكون أطول في هذه الحالة. ويرى بعضهم أن تأثير تلك السياسة قد يكون أقل فعالية هذه المرة، أي أنه قد يستغرق وقتاً أطول للتأثير على الاقتصاد والحد من التضخم بشكل فعال.

أخبار ذات صلة

توقعات بارتفاع التضخم في مصر لأعلى مستوياته تاريخيا في يونيو
محافظ بنك إنجلترا: لا يمكنني تحديد موعد لبدء خفض الفائدة

مزيد من الألم!

يرى المفكر الاقتصادي، أستاذ الاقتصاد بجامعة ويسترن، مايكل باركين، أن الوصول إلى المعدلات المستهدفة للتضخم عند حدود 2 بالمئة، يتطلب "مزيداً من الألم".

ويقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إنه "لإعادة التضخم إلى الهدف الأساسي، من الضروري رفع أسعار الفائدة بأكثر من الزيادة في معدل التضخم، والتسبب في بعض الألم، ووقف تفوق الطلب على العرض".

ويضيف باركين: "لم يرفع أي بنك مركزي سعر الفائدة في سياسته بما يكفي لتحقيق النتيجة المرجوة.. إنهم يعملون على وهم أنهم يستطيعون إعادة التضخم إلى الهدف من خلال (هبوط ناعم)، وهذا لم يحدث أبداً، ولن يحدث"، على حد قوله.

كساد وركود سبقهما تضخم.. والخوف من القادم

أخبار ذات صلة

بوتيرة أبطأ.. الفيدرالي الأميركي قد يرفع الفائدة مرة أخرى
هل الذهب لا يزال ملاذا آمنا في مواجهة الشدائد الاقتصادية؟

زيادة تكاليف الاقتراض

لكن على الجانب الآخر، يكمن الخطر في أن العودة إلى معدل تضخم بنسبة 2 بالمئة قد يتطلب من محافظي البنوك المركزية زيادة تكاليف الاقتراض إلى درجة يعرضون فيها صحة النظام المالي للخطر، طبقاً لتقرير "فاينانشال تايمز"، الذي نقل عن كبيرة الاقتصاديين العالميين في كابيتال إيكونوميكس، جينيفر ماكيون، قولها إن أسعار الفائدة المرتفعة "تدفع معظم الاقتصادات المتقدمة إلى الركود في الأشهر المقبلة".

كما رصد التقرير كذلك مجموعة من العوامل الأخرى التي أدت إلى تأخر كبح جماح التضخم رغم رفع الفائدة على ذلك النحو، من بين تلك العوامل:

- التغيرات في سوق الإسكان، والتي قد تكون سبباً في استغراق زيادة أسعار الفائدة وقتاً أطول للتأثير على الاقتصاد. لا سيما أنه في بعض البلدان، زادت نسبة الأسر التي تمتلك منازلها بشكل كامل أو تستأجرها. كما أصبحت القروض العقارية بأسعار ثابتة أكثر شيوعاً من القروض المرنة.

-أسواق العمال الضيقة: إذ لا تزال الآثار اللاحقة لوباء كورونا على اتجاهات التوظيف محسوسة. ولا يزال النقص الواسع في اليد العاملة - لا سيما في قطاع الخدمات- مستمراً، بما يعزز نمو الأجور وبالتالي تغذية معدلات التضخم.

ومن ثم، قد تفسر التغييرات الهيكلية في أجزاء مهمة من الاقتصاد - بما في ذلك أسواق الإسكان والعمل - بين الآن وتسعينيات القرن الماضي لماذا كان لارتفاع أسعار الفائدة تأثير أكثر حدة وأسرع في ذلك الوقت.

أخبار ذات صلة

التضخم في تركيا يواصل التراجع إلى 38.2% خلال يونيو
انخفاض معدل التضخم في النمسا لأدنى مستوى منذ مايو 2022

التأخر في رفع الفائدة

وفي تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، يحلل الرئيس التنفيذي في مركز "كوروم" للدراسات الاستراتيجية، طارق الرفاعي، المشهد الراهن، بقوله: إن البنوك المركزية جميعها تأخرت في رفع أسعار الفائدة منذ فترة الجائحة، مع ظهور رد فعل الأسواق في العام 2021 والدعم القوي من قبل البنوك المركزية والحكومات ضمن محاولات التعافي من أزمة كورونا، ومع ارتفاع معدلات التضخم التي كان يعتقد الفيدرالي الأميركي بأنه ارتفاع مؤقت ولم يرفع الفائدة.

ويشار في هذا السياق، إلى أن إصرار محافظي البنوك المركزية في البداية على أن التضخم سيثبت أنه قصير الأمد، قد أدى إلى تأخيرات في التخلي عن عقود من السياسة النقدية المتساهلة للغاية.

وبالتالي ربما تكون هذه التأخيرات قد جعلت من الصعب التغلب على التضخم بمعدلات أعلى، حيث اتسعت ضغوط الأسعار من مشكلة تؤثر على عدد صغير من المنتجات التي تضررت من اختناقات سلسلة التوريد إلى ظاهرة أوسع نطاقاً، تضرب تقريباً جميع السلع والخدمات.

وبالعودة لتصريحات الرفاعي، فإنه يشير إلى أن الفيدرالي الأميركي الذي كان من أوائل من البنوك المركزية التي قامت برفع الفائدة، جاءت حدة الارتفاع أقوى من البنوك الأخرى، سواء المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا "ولذلك نرى أن نسبة التضخم في أوروبا وإنجلترا أعلى من الولايات المتحدة".

ويضيف: "لم تصل البنوك المركزية حتى الآن للمستوى المستهدف في حدود الـ 2 بالمئة، بينما الفيدرالي الأميركي يقترب نسبياً من هذه النسبة".

أخبار ذات صلة

اقتصاد أميركا ينمو على عكس التوقعات.. أين الركود المنتظر؟
تركيا تتعهد بمواصلة التشديد النقدي حتى تتحسن توقعات التضخم

مواصلة رفع الفائدة

ويتوقع الرئيس التنفيذي في مركز "كوروم" للدراسات الاستراتيجية، أن يتجه الفيدرالي الأميركي بنهاية الشهر لرفع معدلات الفائدة بـ 25 نقطة أساس، على أن يستمر كذلك المركزي الأوروبي في رفع الفائدة، لأن نسبة التضخم لا تزال مرتفعة، مشدداً على أن "الفيدرالي ناجح إلى الآن في محاولة التحكم في نسبة التضخم".

وكان الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في يونيو، قد قرر تثبيت معدلات الفائدة الرئيسية ضمن نطاق 5 و5.25 بالمئة للمرة الأولى منذ يناير 2022.

- بعدما رفع الفيدرالي معدلات الفائدة 10 مرات متتالية اعتبارا من مارس 2022، صوّتت لجنة تحديد معدلات الفائدة في الاحتياطي الفيدرالي لصالح الإبقاء على معدلات الفائدة الحالية.

- أظهر محضر اجتماع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الأخير، أن أغلب المسؤولين قد أشاروا إلى وجود احتمال كبير لتطبيق المزيد من التشديد في السياسة النقدية، ولكن بوتيرة أبطأ، خلال العام الجاري.

-أوضح المحضر، والذي تم نشره الأربعاء، أن صناع السياسة النقدية في مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي قد أيدوا بالأغلبية "ترك نطاق الفائدة دون تغيير" في اجتماع يونيو، رغم رغبة بعضهم في رفع الفائدة، وذلك بسبب المخاوف المتعلقة بالنمو في أكبر اقتصاد بالعالم.

- وفي 15 يونيو الماضي، رفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة الرئيسية الثلاثة بمقدار 25 نقطة أساس (أي بنسبة 0.25 بالمئة)، ويتوقع معظم المراقبين في السوق أن تكون هناك زيادة مماثلة في يوليو.

ويشير الرفاعي إلى المشكلة التي تواجهها البنوك المركزية والمرتبطة بمخاطر رفع الفائدة بسبب هشاشة البنوك، خاصة في أوروبا، وأزمة القطاع العقاري، لا سيما في بريطانيا، موضحاً أن تلك المخاوف التي تسيطر على أسواق المال يتعين معها الموازنة بين السيطرة على التضخم ودعم البنوك والقطاع العقاري.

أخبار ذات صلة

6 عادات مالية تمنعك من أن تصبح ثرياً.. ما هي؟
مخالفة للتوقعات.. أداء إيجابي للأسواق العالمية بالنصف الأول