كغيره من الاقتصادات الأوروبية، يرزح الاقتصاد الفرنسي تحت وطأة عديد من التحديات المتفاقمة، لا سيما في ضوء ما خلفته جائحة كورونا من ضغوطات واسعة ومن بعدها الحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة وارتفاع معدلات التضخم وسياسات التشديد النقدي المتبعة تبعاً لذلك، غير أن الاضطرابات الأخيرة وأعمال العنف التي تلت حادثة مقتل الشاب "نائل"، قد فاقمت الضغوطات على كاهل باريس.

عكست المشاهد الآتية من فرنسا خلال الأيام الأخيرة جانباً مباشراً من حجم الأضرار الواسعة التي لحقت بعدد واسع من المتاجر الكبرى في عديد من الأحياء، فضلاً عن عمليات الحرق والتدمير التي لحقت بكثير من الحافلات والسيارات والمباني، وبما يكشف عن خسائر فادحة، لا سيما إذا ما أضيفت إليها الخسائر المرتبطة بحجم الضرر الهائل بقطاع السياحة على أثر تلك الاضطرابات التي رسمت صورة مرعبة للشارع الفرنسي.

وفي هذا السياق، تشير التقديرت الأولية لشركات التأمين هناك إلى أن حجم الخسائر قد بلغ أكثر من 100 مليون يورو (109 ملايين دولار)، وهو رقم مرشح للزيادة بلا شك، طبقاً لما نقلته تقارير إعلامية عن رئيس غرفة التجارة في إيكس مرسيليا بروفانس، جان لوك شوفين، والذي أشار بشكل خاص إلى الخسائر الناجمة عن استهداف جميع الشركات وتضررها، لا سيما تلك التي تقدم سلعاً ثمينة.

خبير اقتصادي: فرنسا تدفع فاتورة باهظة ثمنا للعنف

خسائر مباشرة وغير مباشرة

من باريس، يقول الكاتب والباحث، رئيس تحرير مجلة كل العرب، علي المرعبي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن الأحداث التي بدأت منذ مقتل الفتى نائل قادت إلى خسائر اقتصادية يمكن وصفها بـ "الفادحة"، على النحو التالي:

  • هناك خسائر مباشرة وخسائر مستقبلية غير مباشرة تنتظر الاقتصاد الفرنسي جراء الأحداث الأخيرة.
  • الخسائر المباشرة تنقسم إلى (الخسائر الميدانية، والخسائر الإضافية المرتبطة بالقطاع السياحي).
  • الخسائر الميدانية ترتبط بشكل مباشر بعمليات التدمير والحرق التي تعرضت لها آلاف المباني والسيارات والمنشآت، وغير ذلك من الخسائر المنظورة حتى الآن.
  • الخسائر الإضافية ترتبط بقطاع السياحة، لا سيما ونحن على أعتاب الموسم السياحي في باريس تحديداً، وقد أدت الأحداث الأخيرة إلى إلغاء عدد هائل من الحجوزات، لا سيما من السياحة الوافدة من الولايات المتحدة والدول الآسيوية.

تشير التقديرات المبدئية، التي كشف عنها مدير مكتب السياحة في العاصمة، جان فرنسوا ريال، إلى أن نسبة 25 بالمئة من حجوزات الأجانب قد تم إلغاؤها على وقع الأحداث التي تشهدها البلاد. وقد حذر من تفاقم الأزمة ما إن استمرت تلك الحالة، وبما يؤثر كذلك على دور الألعاب الأولمبية المرتقبة بالبلاد.

ويضيف المرعبي: "علاوة على ذلك، فإن سمعة فرنسا الاقتصادية أصيبت أيضاً بالصدمة؛ لأن رؤوس الأموال تفتش عن الأماكن المستقرة للقيام بأعمال تجارية وإنشاءات وغير ذلك، بينما حالة عدم الاستقرار خلال الأيام الماضية وما رافقها من أعمال عنف أدت إلى تجميد عديد من الأعمال التي كان مقرر أن تقوم بها شركات ورجال أعمال من داخل وخارج فرنسا".

أخبار ذات صلة

احتجاجات فرنسا.. الخسائر 55 مليون يورو والشعب يؤيد "الطوارئ"
تراجع حدة التظاهرات في فرنسا.. واعتقال 157 شخصا فقط

ويتابع: "أيضاً هناك على المدى البعيد الخسائر المتوقعة المرتبطة بدورة الألعاب الأولمبية الصيفية بعد عام من الآن (الدورة الثالثة والثلاثين في الفترة من 26 يوليو إلى 11 أغسطس 2024)، على اعتبار أن الأحداث الأخيرة تؤدي بدورها إلى نوع من التراجع في النشاط الاقتصادي والبنى التحتية المخصصة، حتى أن أحد المواقع الخاصة بالدورة تم إحراقها أخيراً، كما تم تأخير عديد من الأعمال المرتبطة بالإنشاءات والبنى التحتية الخاصة بالحدث".

ويشير الكاتب والباحث السياسي، إلى أن "الخسائر المشار إليها دون أدنى شك تؤدي لاهتزاز الوضع الاقتصادي في فرنسا، لا سيما وأنها تأتي ضمن سلسلة من الأحداث المتتابعة، بداية من العام 2018 وتظاهرات أصحاب السترات الصفراء، ثم أزمة كورونا وتداعياتها الاقتصادية، ومن بعدها الحرب في أوكرانيا وما تحملته باريس من أعباء مالية وعسكرية، ثم جاءت بعدها المظاهرات والإضرابات الشاملة للنقابات العمالية مجتمعة ضد قانون رفع سن التقاعد.. كل هذه تراكمات كبدت الاقتصاد الفرنسي خسائر كبيرة".

وبشكل عام، لا يعتقد المرعبي بأنه على المدى المنظور وفي ضوء الوضع السياسي الدولي والأوروبي الحالي وفي ظل تداعيات الحرب في أوكرانيا يمكن للاقتصاد الفرنسي أن يكون قادراً على الانتعاش بسرعة معقولة، مردفاً: "الأمور ستحتاج إلى بعض الوقت كي يستعيد الاقتصاد الفرنسي دورته الطبيعية ويستطيع التخفيف من أعباء التضخم واستعادة قدرة المواطن الفرنسي الشرائية في ظل ارتفاع الأسعار".

أخبار ذات صلة

حصدت 700 ألف يورو.. حملة تبرعات لقاتل نائل تثير غضبا عارما
فرنسا.. جدّة نائل توجه رسالة إلى المتظاهرين

خسائر مؤسسات ومرافق الدولة

المستشار السابق بالبرلمان الأوروبي، عبدالغني العيادي، يقول إن الخسائر التي لحقت بالمرافق ومؤسسات الدولة نفسها تصل إلى ثمانية ملايين يورو طبقاً لتقديرات رسمية، بينما الخسائر الإجمالية العامة تتجاوز الـ 100 مليون يورو (كما ذكرت التقديرات الأولية لشركات التأمين) وذلك نظراً لحجم المتاجر التي تضررت والشركات الكبرى التي لحقت بها خسائر واسعة في هذا السياق.

وكان وزير المالية الفرنسي، برونو لو مير، قد ذكر في تصريحات سابقة له تناقلتها تقارير إعلامية مختلفة، أن نحو 10 مراكز تسوق كبرى، وأكثر من 200 سوبر ماركت و250 متجر تبغ و250 منفذاً مصرفياً "تعرضوا للهجوم أو النهب".

ويضيف العيادي في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "إن إجمالي الخسائر المالية والاقتصادية مرشح للزيادة في ظل المعطيات الراهنة"، متحدثاً في الوقت نفسه عن الخسائر التي تُهدد قطاع السياحة بشكل خاص والذي يعد رافداً مهما من روافد الاقتصاد الفرنسي، ويُعول عليه بشكل كبير.

ويتابع العيادي: "السياحة قطاع مهم جداً بالنسبة لفرنسا المثقلة بعديد من التحديات والضغوطات، بما في ذلك تفاقم الدين الخارجي، علاوة على أثر الحرب في أوكرانيا، علاوة على السياسات الفرنسية المرتبطة بالتحول الطاقي وكذلك أزمة ارتفاع مستويات التضخم وغيرها من التحديات (..) جاءت هذه الأحداث لتشكل ضربة كبيرة للقطاع السياحي الذي يحرك الاقتصاد الفرنسي".

وتمثل عائدات السياحة (الداخلية والخارجية) أكثر من 8 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في فرنسا. وتشير تقديرات المجلس العالمي للسفر والسياحة، قبل عام، إلى ارتفاع محتمل لمساهمة القطاع إلى أكثر من 216 مليار يورو.

ويلفت المستشار السابق بالبرلمان الأوروبي، إلى إلغاء عديد من الحجوزات وسحبها في ضوء الأوضاع الراهنة، وبالتالي تفقد باريس حصة كبيرة من القطاع هذا العام، ربما لصالح دولة أوروبية أخرى وهي إسبانيا التي يُمكن أن تستفيد من ذلك، مشيراً في الوقت نفسه إلى تأثر الإيرادات الضريبية للدولة من الضربة التي لحقت بقطاع السياحة والقطاعات المتضررة.

ويعتقد العيادي في الوقت نفسه بأن "الخسائر المالية المتوقعة لا حدود لها ويصعب تقديرها بشكل دقيق.. بينما الأهم والأكثر خطورة من تلك الخسائر هي الخسائر الاعتبارية والمجتمعية، في ظل الشرخ الذي يعاني منه المجتمع الفرنسي، وفقدان الثقة في الدولة التي لم تعد لها هيبة"، موضحاً أنه "يكاد يجمع الجميع أن هناك نوعاً من العبث من جانب القيادة السياسية".

المظاهرات تدفع فرنسا نحو كارثة اقتصادية

ماذا بعد استعادة الهدوء نسبياً؟

وبرغم استعادة الشوارع الفرنسية حالة الهدوء النسبي بعد أيام من الاضطرابات شديدة الخطورة، إلا أن التبعات الاقتصادية لتلك الاضطرابات لاتزال تتفاقم وتفرض نفسها على المشهد، في ظل حالة عدم اليقين من استقرار الأوضاع بصفة عامة.

يشرح ذلك في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" من باريس الكاتب والمحلل السياسي، نزار الجليدي، والذي يقول إن حجم الخسائر يقاس بالتداعيات الآن على الاقتصاد الفرنسي والمشهد العام "فرنسا التي تستعد لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية القادمة، وفرنسا التي هي الوجهة السياحية المفضلة في شهري يوليو وأغسطس، باتت على المحك!".

ويضيف: "يعبر عن ذلك على سبيل المثال أرقام الحجوزات (السياحية) التي هي في تراجع مستمر، بخلاف النفسية العامة المسيطرة على المشهد الآن".

ويتابع الجليدي: "ضف إلى ذلك من الخسائر المادية، التراشق الحادث الآن في البيانات السياسية بين من يريد جمع المال للبوليس، ومن يقول إنه من قبيل اللاحياء السياسي أن يستغل حزب سياسي الظرف ويلعب بورقة الدعم المالي لمنفذي القانون (..)" نحن أمام مشهد أصبح جد مرعب ومخيف، ليس فقط من ناحية أعمال العنف (..) بعد أن حل الهدوء رويداً رويداً للعاصة الباريسية وشوارع فرنسا، يظل مشهد العسكرة مشهداً مخيفاً، وكذلك هذا الهدوء قد يأتي بعاصفة أكبر".