انعكست حالة "اللايقين" المسيطرة على الاقتصاد العالمي، تحت وطأة التطورات الجيوسياسية الأخيرة وتبعاتها الواسعة، على أسعار النفط خلال النصف الأول من العام الجاري 2023، فيما لعب تحالف "أوبك+" دوراً مؤثراً في محاولة تحقيق التوازن بأسواق النفط، في ظل مشهد مضطرب تلفه جملة من التحديات المفصلية العميقة، وسط رهانات على فعالية وتأثير قرارات خفض الإنتاج الطوعي التي اتخذتها الدول الأعضاء بالتحالف خلال الستة أش
ترتبط أسعار النفط بجملة من المؤشرات والمتغيرات، بما في ذلك اتجاهات السياسات المالية والنقدية في ظل سياسة التشديد النقدي المتبعة من جانب البنوك المركزية، علاوة على معدلات النمو الاقتصادي، والمخاوف المرتبطة بشبح الركود الذي يهدد عديداً من الاقتصادات الكبرى، بالإضافة إلى المؤشرات المتوقفة على الطلب الصيني في ظل تراجع النشاط الصناعي بشكل خاص، وغيرها من المعطيات التي تتحدد بناءً عليها مستويات أسعار النفط.
وتبعاً لذلك ومع المعطيات الراهنة، تتباين التقديرات بشأن مستويات أسعار النفط خلال النصف الثاني من العام، على اعتبار أنها تتوقف على مدى التطور الذي تشهده تلك العوامل المذكورة وغيرها، وفي ضوء ارتباطها بالتطورات الجيوسياسية الراهنة بعد الحرب في أوكرانيا وتداعياتها الممتدة.
يأتي ذلك في وقت يُنظر فيه إلى منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" على أنها صمام أمان لاستقرار الأسواق، ويُعول عليها في إحداث التوازن المطلوب، وسط مجموعة التحديات الاقتصادية المتزامنة التي يشهدها العالم، وفي ظل ارتفاع معدلات التضخم، والسياسات المالية والنقدية المتبعة من قبل البنوك المركزية بموازاة ذلك، وأثر ذلك على تباطؤ النشاط الصناعي بالنسبة لعديد من الاقتصادات، لا سيما في الصين التي تعتبر أكبر مستورد عالمي للنفط.
ماذا حدث في النصف الأول؟
في إطار ذلك الدور، أعلنت عدة دول مصدرة للنفط ضمن تحالف "أوبك+"، بما في ذلك السعودية والإمارات، في أبريل الماضي، عن خفض طوعي للإنتاج (بـ 1.16 مليون برميل يومياً) اعتباراً من شهر مايو وحتى نهاية 2023.
جاء ذلك بهدف "تحقيق التوازن في السوق"، وذلك بعد أن انخفضت أسعار النفط في مارس الماضي إلى أدنى مستوى لها في نحو 15 شهراً؛ بسبب الاضطرابات في القطاع المصرفي.
عارضت الولايات المتحدة تلك الخطوة المفاجئة، كما اعتبرت وكالة الطاقة الدولية أن خفض الإنتاج يخاطر بتفاقم عجز إمدادات النفط في النصف الثاني من العام.
وفي يونيو، اتفق تحالف "أوبك+" على مستوى مستهدف جديد للإنتاج عند 40 مليون و460 ألف برميل يوميا بداية من 2024 وحتى نهاية العام.
وبالتالي يخفض أعضاء التحالف مستوى الإنتاج المستهدف للعام 2024 بواقع 1.4 مليون برميل عن مستهدفات الإنتاج الحالية، طبقاً لبيان صادر عن "أوبك+".
وكان التحالف، الذي يضم الدول الأعضاء في منظمة "أوبك" والدول غير الأعضاء وعلى رأسها روسيا، قد قرر في شهر أكتوبر الماضي أيضاً خفض الإنتاج بنحو مليوني برميل يومياً.
وبينما سعت"أوبك+" خلال النصف الأول من العام، للمحافظة على استقرار العرض والطلب، وركزت سياساتها في هذا السياق على آليات السوق، فإنها وضعت نصب أعينها مجموعة من العوامل والمعطيات الرئيسية المسيطرة على السوق حالياً وما تعكسه من مؤشرات بخصوص العرض والطلب خلال العام الجاري، بدءاً من معدلات التضخم المرتفعة، ومروراً بشبح الركود الذي يهدد اقتصادات رئيسية، ووصولاً إلى تباطؤ الطلب في الصين، وهي المعطيات التي انعكست بشكل مباشر على أسواق النفط وتقديرات حجم الطلب.
يقول زميل أول بمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي، جاكوب كيركيغارد، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إنه خلال النصف الأول من العام تراجعت أسعار النفط بسبب مخاوف الركود، فضلاً عن أثر الانتقال المتسارع إلى المركبات الكهربائية التي تقلل بشكل مباشر من الطلب على النفط، مشدداً على أن هذا الانتقال هو ميزة هيكلية من شأنها أن تتسارع في ثلاث من مناطق ودول العالم (الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) خاصة في السنوات المقبلة.
ويضيف لدى حديثه عن العوامل المؤثرة بالأسعار، ومستويات الطلب في النصف الأول قائلاً، "لقد أدى التحول عن التحفيز الاستثماري الضخم في الصين بشكل خاص إلى إضعاف الطلب على النفط في العام 2023 حتى الآن".
وعن تقديراته للنصف الثاني من العام، يقول كيركيغارد، "سوف تظل أسعار النفط الإجمالية في رأيي ضعيفة، ومن المرجح أن تنخفض قليلاً في النصف الثاني من العام".
إلى أين تتجه أسعار النفط في النصف الثاني؟
وفي السياق، تترقب الأسواق مجموعة من التطورات المؤثرة على مستويات الطلب على النفط، وبالتالي على مستويات الأسعار، وسط تقديرات متباينة صادرة من قبل بنوك الاستثمار العالمية بشأن تلك المستويات؛ فقد خفض "جيه بي مورغان تشيس"، منتصف يونيو، توقعاته حيال أسعار خام برنت، بنسبة 11 بالمئة إلى 82 دولاراً للبرميل، وذلك في تقديراته للأسعار خلال النصف الثاني من العام الجاري 2023.
وفي وقت يناهز فيه سعرالخام المعياري الآن 75 دولاراً للبرميل، خفض "HSBC" توقعاته لأسعار النفط أيضا، متوقعا وصول سعر خام برنت المعياري إلى 80 دولاراً للبرميل في النصف الثاني من العام، انخفاضاً من 93.50 دولارفي السابق. كما خفض كذلك تقديراته طويلة الأجل إلى 75 دولاراً للبرميل مقارنة بـ85 دولاراً من قبل.
أما "مورغان ستانلي"، والذي كانت تقديراته السابقة -قبل قرار أوبك+ الأخير- تشير إلى استقرار أسعار النفط عند مستوى 77.5 دولاراً للبرميل في الربع الثالث من العام، فقد شكّلت تقديراته أقل التوقعات بالنسبة لبنوك الاستثمار العالمية، في الوقت الذي يرى فيه أن الأسواق بحاجة لمزيد من الوقت حتى الوصول إلى المستوى الصعودي.
بينما تشير تقديرات "غولدمان ساكس" إلى أن أحدث خفض للإنتاج من جانب أوبك، من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض مخزونات النفط، وبالتالي دفع الأسعار إلى نطاق 90 دولاراً (طبقاً للرئيس العالمي لأبحاث السلع في غولدمان ساكس، جيفري كوري).
أما "بنك أوف أميركا"، فقد خفض توقعاته عند حدود الـ 80 دولاراً للبرميل بنهاية العام الجاري، مرجعاً ذلك إلى عدد من العوامل؛ من بينها اقتراب الفيدرالي الأميركي من إنهاء سياسة رفع الفائدة.
وكان محللون لدى مجموعة سيتي المصرفية، قد أشاروا إلى أن ضعف الطلب وزيادة المعروض من خارج أوبك وتباطؤ النمو الاقتصادي في الصين والركود المحتمل في الولايات المتحدة وأوروبا، يعني أنه من غير المرجح أن يحقق خفض أوبك+ "زيادة مستدامة في الأسعار" تتجاوز 90 دولارا للبرميل.
أبرز العوامل المؤثرة في الأسعار
من جانبه، يشير رئيس مركز جيواستراتيجيك أناليسيز الأميركي للدراسات، بيتر هوسي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إلى عددٍ من العوامل التي أثرت بشكل مباشر على أسعار النفط خلال النصف الأول من العام الجاري 2023، والتي دفعت بعض بنوك الاستثمار العالمية إلى تبني تقديرات خاصة بمستويات مرتفعة من الأسعار.
أبرز تلك العوامل في تقديره هي "انخفاض إنتاج نفط أوبك، وانخفاض الصادرات الروسية إلى أوروبا، إضافة إلى الأعباء التنظيمية في الولايات المتحدة".
ويأتي ذلك في وقت تلف فيه الاقتصاد العالمي حالة من عدم اليقين، وسط مخاوف الركود المسيطرة على الأسواق، مع ضعف الطلب، وفي ضوء سياسات رفع الفائدة.
لكنّ هوسي يلفت في الوقت نفسه إلى استفادة بعض الدول من بعض من هذه العوامل، من بينها الصين والهند، حيث تفاوضتا على صفقات خاصة للحصول على النفط من روسيا بأسعار مخفضة، خاصة للالتفاف على العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو.
بينما في النصف الثاني من العام الجاري، يصعب وضع تقديرات دقيقة لمستويات أسعار النفط، لا سيما في ظل ارتباطها بعدد من المتغيرات، لا سيما فيما يتصل بمستوى الطلب الصيني.
- لكن "أوبك"، ذكرت في تقريرها الشهري الأخير أن الطلب العالمي على النفط سيرتفع 2.35 مليون برميل يومياً، أو 2.4 بالمئة في 2023. ولم يتغير هذا تقريباً عن 2.33 مليون برميل يومياً في توقعات مايو.
- تتوقع "أوبك" زيادة الطلب العالمي على النفط إلى 110 ملايين برميل يومياً، وأن يرتفع إجمالي الطلب على الطاقة بمقدار 23 بالمئة بحلول العام 2045.
ويقول هوسي في هذا السياق إنه "على مدى الأشهر الستة المقبلة، سيكون العامل الرئيسي هو ما إذا كانت أرقام الدخل القومي المتدهورة للولايات المتحدة ستُترجم إلى طلب أقل أو ضعيف، وبالتالي تلجأ أوبك على خفض الإنتاج مرة أخرى لدعم الأسعار".
وقالت أوبك في تقريرها الأخير، "هناك غموض متزايد فيما يتعلق بالنمو الاقتصادي في النصف الثاني من العام 2023 في ظل استمرار التضخم المرتفع وأسعار الفائدة الرئيسية المرتفعة بالفعل وأسواق العمل الضيقة".
وذكرت أن إنتاجها من النفط انخفض بمقدار 464 ألف برميل يومياً في مايو ليصل إلى 28.06 مليون برميل يومياً مع بدء تطبيق التخفيضات الطوعية التي تعهدت بها السعودية ودول أخرى بالمنظمة.
تذبذب الأسعار
من جانبه، يشير الخبير والمحلل الاقتصادي، وضاح الطه، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن النصف الأول من العام اتسم بتذبذب أسعار النفط مع الميل للانخفاض قياساً بالمستويات التي كانت سائدة في العام الماضي 2022 التي كان قد خلقت حالة إيجابية استفادت من خلالها الدول المنتجة واستطاعت تحقيق فوائض دولارية.
ويتابع الطه، "المسار المنخفض في الستة أشهر الأولى من العام الجاري جاء في ظل التخوف من انخفاض مستويات النمو الاقتصادي، خاصة بعد تعديل بيانات النمو بشكل طفيف من جانب المؤسسات الدولية، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي"، مشيراً إلى أن "إنهاء أسعار النفط شهر يونيو على ارتفاع بأكثر من 4 بالمئة، كان السبب الرئيسي ليس مرتبطاً بمسألة النمو بقدر ما هو يتعلق بالانخفاض في المخزونات الأميركية بحسب تقرير إدارة معلومات الطاقة، ومن الأخبار الإيجابية أيضاً البيانات المعدلة للنمو الاقتصادي بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة عن الربع الأول بنسبة 2 بالمئة في حين كانت التقديرات الأولية بحوالي 1.3 بالمئة".
ويلفت الطه إلى أنه "لا تزال البيانات القادمة من الصين تشير إلى وجود بعض الضعف بالنسبة للقطاع الصناعي، في الإنتاج والتصدير، وهذه هي النقطة الوحيدة التي تثير بعض المخاوف في بكين"، موضحاً أنه "بشكل عام تقديرات النمو الاقتصادي في الصين لا تزال عند مستوى 5 بالمئة، وهذه المستويات تكون تحت المراجعة في المرحلة المقبلة".
ويشير الطه في الوقت نفسه إلى أنه لا تزال بعض البنوك وبيوت الخبرة يعتقدون بأن المتبقي من العام سيكون هناك رفع للطلب، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن احتمالية دخول الولايات المتحدة في ركود أصبحت مستبعدة مقارنة بوقت سابق.