تُعول عديد من الاقتصادات العربية بشكل أساسي على تحويلات مغتربيها في الخارج لإنعاش موارد النقد الأجنبي، وهي التحويلات التي عادة ما ترتفع وتيرتها خلال أشهر الصيف، بالتزامن مع العطلات وما يصاحبها من مناسبات خاصة.
وتعد تلك التحويلات فرس رهان رئيسياً بالنسبة لكثيرٍ من الاقتصادات، حتى أن عوائدها في بعض البلدان ربما تفوق عوائد قطاعات راسخة وأساسية، مثل القطاع السياحي على سبيل المثال، فيما تبزغ مساعي بعض الدول لتقديم محفزات اقتصادية للمغتربين من أجل استثمار المزيد من أموالهم في بلدانهم الأصلية، فضلاً عن خطط ومنهجية تعظيم العائد من تلك الاستثمارات وتوجيهه في قطاعات ذات أولوية.
يأتي ذلك في وقتٍ تواجه فيه تلك التحويلات عادة إشكاليات مرتبطة بأن معظمها موجه للدعم الأسري والعائلي، أو للادخار الشخصي، الأمر الذي يحول بينها وبين القطاعات الاستثمارية المُهمة التي تقدم قيمة مضافة للاقتصاد، وبما يتطلب بذل مزيد من الجهد من أجل توجيه تلك التحويلات في قنوات تشكل إضافة حقيقية ومباشرة.
وفي أحدث تقاريره في هذا الصدد، أفاد البنك الدولي بأنه في العام 2022، تلقت التحويلات المالية دفعة جراء عدد من العوامل، أبرزها:
- صعود أسعار النفط في بلدان مجلس التعاون الخليجي، الأمر الذي ساعد على زيادة دخول المغتربين.
- التحويلات المالية الكبيرة من الاتحاد الروسي إلى بلدان آسيا الوسطى.
- قوة أسواق العمل في الولايات المتحدة واقتصادات بلدان المقصد المتقدمة.
وبحسب التقرير، زادت تدفقات التحويلات بنسبة 0.7 بالمئة في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ، وبنسبة 19 بالمئة في أوروبا وآسيا الوسطى، وبنسبة 11.3 بالمئة في أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، وبنسبة 12.2 بالمئة في جنوب آسيا، وبنسبة 6.1 بالمئة في أفريقيا جنوب الصحراء. فيما انخفضت تدفقات التحويلات بنسبة 3.8 بالمئة إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
مورد رئيسي
يقول الخبير الاقتصادي المغربي، محمد جدري، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "أعتقد بأن تحويلات المغتربين العرب إلى دولهم الأصلية تبقى مورداً مهماً بالنسبة لاقتصادات هذه الدول".
ويستشهد بواقع الحال في المملكة المغربية، حيث أن عائدات مغاربة العالم خلال الثلاث سنوات الماضية تجاوزت الـ 10 مليارات دولار كل سنة في المتوسط، وبالتالي فإن هذا الرقم يسهم في تعزيز العملة الصعبة ويساعد في مجموعة من الأمور المتعلقة بالاستهلاك والاستثمار.
لكنه يشير إلى المعضلة الأساسية التي تواجه توظيف تلك التحويلات، والمرتبطة بأن "معظم العائدات لا يتم استغلالها في استثمارات تخلق قيمة مضافة". ويقول إنه في المغرب على سبيل المثال فإن أكثر من 50 بالمئة من تلك التحويلات تذهب نحو التضامن العائلي (..) وما بين 15 إلى 20 بالمئة تذهب نحو الادخار كودائع في البنوك المغربية، وبنفس النسبة نحو الاستثمار.
ويضيف: "أغلب هذه الاستثمارات عادة ما تكون في استثمارات لا تقدم قيمة مضافة، سواء في شراء العقارات أو في تأسيس المطاعم والمقاهي.. ومن ثم يتعين على الحكومات مساعدة هؤلاء المغتربين لكي يوظفوا هذه العوائد نحو بلدانهم الأصلية في استثمارات ذات قيمة مضافة كبيرة لرفع مستويات الشغل في استثمارات مهنية جيدة، ولا سيما في أمور تتعلق بالابتكار والإبداع، لا سيما أن أغلب المغتربين في أوروبا، حيث التكنولوجيات المتقدمة والكفاءات التي يمكن نقلها لبلدانهم الأصلية".
وقال: "أظن بأن الحكومات العربية لا يزال أمامها الكثير من أجل توظيف تحويلات المغتربين نحو بلدانهم الأصلية وتوجيهها في سياق تقديم استثمارات ذات قيمة حقيقية".
وتناهز تحويلات المغاربة المقيمين في الخارج -وفق بيانات بنك المغرب- 105.8 مليار درهم خلال 2022 (ما يقارب 11 مليارات دولار)، ارتفاعاً بنسبة 12.9 بالمئة عن العام 2021.
وفي الجزائر، بلغت تحويلات الجزائريين بالخارج في العام 2022(1.8 مليار دولار)، مقابل (1.7 مليار دولار) سنة 2021.
وتشير بيانات البنك المركزي التونسي إلى ارتفاع تحويلات العاملين بالخارج بنسبة 12 بالمئة في العام 2022، محققة 8.4 مليار دينار (2.70 مليار دولار).
محفزات اقتصادية
من جانبه، يشير الخبير الاقتصادي، الدكتور مصطفى بدرة، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن تحويلات المغتربين تُعد مورداً من الموارد الأساسية للعملة الأجنبية لكل دولة، فيما تعتبرها بعض الدول المورد الأهم، حتى أن بعض تلك الدول تتبنى خطط هادفة للتوسع في تصدير العمالة للخارج، عبر منهجية مُحكمة تعمل على تأهيل كثير من الأفراد بشكل جيد وبتعليم مميز في قطاعات مختلفة، من أجل توظيفهم في الخارج وبما يسهم بعد ذلك في تحسين موارد البلد.
ويتابع: "لا تقتصر العوائد على التحويلات الخاصة بالمغتربين، لكن العاملين بالخارج يُمكنهم أن يكونوا سفراء لدولهم، ويقدموا قيمة مضافة حقيقية، من خلال تصدير الأفكار والتكنولوجيا بما يحسن من قدرات دولهم، فضلاً عن أن بعضهم يُمكنه المساهمة في خلق شراكات استثمارية وتجارية وفتح أسواق جديدة، ولا يقتصر الأمر على قطاع بعينه، إنما يمتد لمختلف القطاعات".
ويشير إلى عددٍ من الحوافز التي تقدمها بعض الدول لتشجيع تحويلات المغتربين، من بينها تقديم فرص استثمارية خاصة لهم بالعملة الأجنبية، من بينها شراء أراضٍ وعقارات ووحدات سكنية، فضلاً عن عوائد بنكية مميزة ضمن المحفزات الاقتصادية لهم، إضافة إلى ما تقدمه البورصات وشركات الاستثمار من محفزات كذلك فيما يخص الاستثمار بالعملة الأجنبية"، مشيراً إلى أن تلك المحفزات يُمكن أن تتنوع في مختلف القطاعات وبما يعزز من فعالية تحويلات المغتربين في الاقتصاد الوطني.
وفي مصر، التي تعد أكبر متلقٍ للتحويلات في المنطقة، انخفضت التحويلات بنسبة 10 بالمئة إلى 28.3 مليار دولار في العام 2022 بعد أن وصلت إلى مستوى قياسي بلغ 31.5 مليار دولار في العام 2021، مع تباطؤ التدفقات في الربع الرابع إلى أدنى مستوى منذ عام 2016، بحسب تقرير حديث للبنك الدولي. بينما توقع البنك الدولي 3.1 ببالمئة نمواً في تحويلات المصريين بالخارج خلال 2023.
وتُظهر البيانات الصادرة عن البنك الدولي ترتيب الدول بحسب أكثرها استقبالاً للتحويلات، على النحو التالي:
- الهند في المقدمة بـ (111 مليار دولار).
- المكسيك في المركز الثاني بـ (61 مليار دولار).
- الصين ثالثاً بحوالي (51 مليار دولار).
- الفلبين في المركز الرابع بـ (38 مليار دولار).
- باكستان خامساً بـ (30 مليار دولار).
التقديرات تشير إلى أن تدفقات التحويلات المُسجَّلة رسمياً إلى البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل ستزيد بنسبة 1.4 بالمئة إلى 656 مليار دولار في العام 2023.
تحويلات الخارج تهزم قطاعات راسخة!
وإلى ذلك، يتحدث الخبير الاقتصادي التونسي، رضا الشكندالي، في تصريح خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" عن ما تمثله تحويلات العاملين بالخارج من أهمية خاصة بالنسبة لعديد من البلدان، ربما تفوق عائدات قطاعات راسخة وأساسية كما هو الحال بالنسبة لتونس، ذلك أنه يلفت إلى أن عائدات تحويلات العاملين بالخارج في بلاده فاقت في السنوات الأخيرة قطاعاً رئيسياً مثل قطاع السياحة.
تؤكد ذلك بيانات المركزي التونسي والتي تُظهر تفوقاً لعائدات تحويلات العاملين بالخارج (2.70 مليار دولار) على عائدات القطاع السياحي (1.35 مليار دولار).
ويشير إلى أنه من الضرورة بمكان إعطاء تحويلات العاملين بالخارج اهتماماً أوسع من خلال تقديم عديد من المحفزات لهم، بحيث يمكن الاستفادة من فارق نسبة الفائدة بين تونس والاتحاد الأوروبي (على اعتبار أن غالبية التونسيين في الخارج هم في دول الاتحاد الأوروبي)، وبما يعطي لهذه التحويلات مردودية كبيرة جداً عندما تتجه تونس للسماح لهم بفتح حسابات بالعملة الصعبة.