نجحت الأسواق المالية بمنطقة الشرق الأوسط في الاحتفاظ بزخم الاكتتابات القوية، بدعمٍ من أسواق الخليج التي سجّلت أداءً استثنائياً في هذا السياق العام الماضي، وتواصله هذا العام، رغم حالة "عدم اليقين" المسيطرة على الأسواق، في ضوء جملة التطورات العاصفة التي تعرضت إليها الاقتصادات حول العالم ضمن تبعات الحرب في أوكرانيا منذ 24 فبراير 2022.
وبلغ عدد عمليات الاكتتاب الأولي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 51 عملية في العام 2022، جمعت 22 مليار دولار، وبزيادة 179 بالمئة عن معدلات العام 2021.
وتشير أحدث بيانات شركة "إرنست ويونغ" الاستشارية، عن الربع الأول من العام الجاري، إلى نجاح أسواق منطقة الشرق الأوسط، بقيادة خليجية من قبل الإمارات والسعودية، في المحافظة على زخم الطروحات المحقق في العام الماضي، والذي تفوقت به دول المنطقة على عديد من الدول صاحبة الاقتصادات الكبرى التي عانت أسواقها بشكل كبير من تبعات الأزمات الأخيرة، على النحو التالي:
- استحوذت أسواق المنطقة على 16 بالمئة من إجمالي عائدات الاكتتابات العامة الأولية على مستوى العالم في الربع الأول من العام.
- جمعت الشركات في المنطقة نحو 3 مليارات و400 مليون دولار من 10 اكتتابات عامة، أكبرها طرح أدنوك للغاز في سوق أبوظبي، والذي يعد أكبر طرح عام أولي على مستوى العالم منذ بداية العام.
- كما شهدت سوق الاندماجات والاستحواذات نمواً بنسبة 42 بالمئة خلال الربع الأول من العام، منها 42 صفقة في الإمارات بقيمة ملياري دولار، والسعودية في المرتبة الثانية بصفقات بقيمة مليار و700 مليون دولار، ثم الكويت بمليار و 300 مليون دولار.
وبحسب the Global Private Capital Association فإن مديري صناديق رأس المال الخاصة ضخوا 19.8 مليار دولار في 191 صفقة في الشرق الأوسط العام الماضي، وهي المنطقة التي تعد "المكان الوحيد في العالم الذي سجّل زيادة سنوية في قيمة الاستثمار في 2022".
انطلاقات قوية
يقول الخبير المالي والمحلل الاقتصادي، وضاح الطه، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن العام 2022 كان عام الطروحات الأولية بامتياز في منطقة الخليج.
استحوذت أسواق دول مجلس التعاون الخليجي على نسبة 21 بالمئة من حجم الاكتتابات العالمية في 2022، مقارنة بنسبة 2 بالمئة فقط في العام 2021.
ويوضح أن العام 2022 شهد انطلاقة قوية في سوق أبوظبي وبما رفع القيمة السوقية بشكل كبير في هذه السوق التي شكلت الأداء الأفضل في المنطقة في 2021 بارتفاع مؤشرها بنسبة 68 بالمئة.
وشهدت الأسواق الإماراتية خلال هذا العام، طلباً قياسياً وإقبالاً كبيراً من قبل المستثمرين والصناديق السيادية والمحافظ الاستثمارية المحلية والإقليمية والعالمية، حيث ناهز إجمالي الطلب على 4 طروحات أولية لشركات "أدنوك للإمداد والخدمات"، "أدنوك للغاز"، و"بريسايت" لحلول الذكاء الاصطناعي، و"الأنصاري" للخدمات المالية، نحو 280 مليار دولار منذ بداية العام الجاري، فيما جمعت الطروحات الأربعة عوائد بأكثر من 3.95 مليار دولار.
وفي 2022 شهد الأسواق الإماراتية أيضا سلسلة إدراجات كانت هي الأقوى في تاريخ أسواق المال، وعلى رأسها "موانئ أبوظبي" و"ديوا" و"بروج" و"جي إف إتش" و"إنفيكتوس للاستثمار" و"تيكوم" و"تعاونية الاتحاد" و"سالك" و"برجيل" و"بيانات" و"إمباور" و"تعليم".
ويؤكد الطه أن الطروحات الأخيرة في منطقة الخليج شجّعت استراتيجية طرح شركات حكومية ترفع من مستوى الحوكمة والشفافية والإفساد، مشيراً إلى أن عمليات الاكتتاب هي البديل الأرخص لعمليات التمويل إذا ما قورنت ببدائل أخرى.
وتبعاً لهذا الزخم، يعتقد المحلل الاقتصادي بأن العام 2023 سيشهد انتقاءً أكثر، ليس بالضرورة أن يكون في حجم إدراجات 2022، إنما من المهم أن يكون هناك تأنياً أكثر في الاختيار، وبما يشكل إضافة حقيقية للأسواق وعمق أوسع.
ويضيف: "يعطي ذلك ميزة للمستثمرين من خلال عمليات الحوكمة والكشوفات المالية السابقة، والأداء القوي، فضلاً عن التوزيعات المستقبلية على أساس نصف سنوي، وهذه إضافة جديدة تسهم في تعزيز الإقبال على الطروحات الأولية".
ويرى الطه أن ثمة مزيداً من الطروحات المرتقبة في ما تبقى من العام 2023، بما في ذلك شركات حكومية ذات تاريخ معروف وأداء جيد، مردفاً: "الأهم من ذلك ومن أجل ضمان أداء قوي لتلك الطروحات يتعين أن يتم انتقاء الشركات واختيار التوقيت المناسب للطرح، وأن يكون التسعير مقبولاً.. إنها شروط أساسية يتعين أن تؤخذ بعين الاعتبار من قبل الشركات والأسواق، وأن يتم التنسيق في هذا السياق لضمان نجاح زخم الطروحات الأولية خلال الفترة المقبلة".
- سجلت الطروحات الأولية في أسواق الإمارات، في الربع الأول، طلباً قياسياً وإقبالاً كبيراً من قبل المستثمرين والصناديق السيادية والمحافظ الاستثمارية المحلية والإقليمية والعالمية بما يعكس قوة الشركات المطروحة.
- جمعت ستة اكتتابات عامة في السوق الموازية بالسعودية، خلال الربع الأول، عائدات إجمالية بقيمة 0.7 مليار دولار، فضلاً عن إدراج صندوق استثمار عقاري بعائدات بلغت 0.1 مليار دولار.
اكتتابات جديدة
من جانبه، يشير المحلل الاقتصادي، نايل الجوابرة، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أنه من المتوقع أن يشهد العام الجاري 2023 مزيداً من الاكتتابات الجديدة التي تتحرك معها الأسواق إيجابياً، مستشهداً بما حققه اكتتاب شركة "أدنوك للإمداد والخدمات"، الشركة العالمية المتخصصة في مجال الشحن والخدمات اللوجستية البحرية لقطاع الطاقة، وهو الاكتتاب الذي شهد طلباً استثنائياً أخيراً.
- اكتتاب "أدنوك للإمداد والخدمات" شكَّلَ أعلى طلب لاكتتاب عام على مستوى العالم حتى الآن في العام 2023.
- يعد ثاني أكبر إدراج في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هذا العام حتى الآن بعد الاكتتاب العام لشركة "أدنوك للغاز" في شهر مارس الماضي.
- استقطب طلباً إجمالياً من المستثمرين زاد عن 125 مليار دولار.
- تجاوز الطرح في المجمل القيمة المستهدفة بـ 163 مرة، ما يجعله أعلى مستوى لتجاوز القيمة المستهدفة على الإطلاق لبناء سعري لاكتتاب عام في الإمارات.
ويوضح الجوابرة أن هذا الإقبال على الاكتتاب إنما يعكس أن هناك طلباً مستمراً على هذه الطروحات التي تهم المستثمرين بشكل كبير "لا سيما وإذا تحدثنا عن هذه الأسهم التابعة لشركات حكومية وشبه حكومية، وإن كانت الأنظار مسلطة بشكل كبير على أسهم النفط والغاز، وهي أسهم قوية للغاية".
ويلفت في الوقت نفسه إلى أنه من المنتظر أيضاً أن يكون هناك اتجاه جديد فيما يخص خصخصة الأندية وبالتالي طروحات جديدة مرتقبة في القطاع الرياضي في المملكة العربية السعودية.
وكان ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، قد أعلن عن مشروع الاستثمار والتخصيص للأندية الرياضية، استكمالًا لمستهدفات رؤية السعودية 2030 في القطاع الرياضي.
زخم الطروحات
الخبير الاقتصادي المتخصص في الاستشارات الاقتصادية والإدارية، رضا مسلم، يقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن ثمة توجهاً ملحوظاً نحو طرح جزء من أسهم الشركات التابعة للشركات القابضة الكبرى في أسواق الخليج، موضحاً أن تلك الطروحات من شأنها توسعة حجم السوق، كما الحال بالنسبة للأسواق الإماراتية، مع طروحات شركة أدنوك على سبيل المثال، وبما يساعد على رفع القيمة السوقية للسوق.
ويضيف، تعمل تلك الطروحات على جذب فرص واسعة للاستثمار، ولا سيما بالنظر إلى الأرباح العالية، وبما يجذب المستثمرين الأجانب والمحليين ممن لديهم فوائض مالية من أجل التوجه للاستثمار في تلك الشركات، وخاصة في ظل الثقة في هذه الشركات محلياً وإقليمياً ودولياً.
ويعتقد بأنه ثمة شركات تابعة للشركات القابضة المملوكة للحكومات تحت الطرح، مشيراً إلى أن زخم الطروحات في العام 2022 مرشح للتواصل خلال العام الجاري 2023 بنفس الوتيرة أو ربما تتجاوزها.
ويشير إلى أن الخطوة القادمة في تقديره هي أن تحذو الشركات العائلية حذو الشركات الحكومية، لا سيما أن تلك الأولى هي شركات قوية وأسماء عملاقة لديها فوائض مالية ضخمة ومشاريع واسعة.
وكان تقرير قد نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية، قد نقل عن مصرفيين، قولهم إن الإصلاح التنظيمي المالي والاستقرار السياسي، مع أسعار النفط والغاز العام الماضي التي ارتفعت بشكل كبير من أدنى مستوياتها وقت الوباء، تدفع إلى زيادة الطرح العام الأولي والصفقات الخاصة.
وبحسب التقرير، فإن الاكتتابات الأخيرة في أسواق منطقة الشرق الأوسط إلى جانب الاكتتابات التي شهدتها أسواق منطقة الشرق الأوسط العام الماضي وكذلك الاكتتابات المرتقبة هذا العام، تشكل جميعها إشارات بالغة الدلالة تؤكد حقيقة أن (الشرق الأوسط على رادار المستثمرين العالميين، حيث يتمتع بازدهار الاكتتاب العام).
ويخالف هذا الازدهار مسار الأسواق الأوروبية التي ترزح تحت وطأة حالة "عدم اليقين" المسيطرة عليها في ظل تبعات التطورات الجيوسياسية والاضطرابات والتحديات الاقتصادية الناجمة عنها.