ينتظر الفائز بالانتخابات الرئاسية التركية إرثاً مُتخماً بالأعباء الاقتصادية. وفيما يبدو أن الرئيس المُنتهية ولايته رجب طيب أردوغان الأوفر حظاً في ضوء ما أظهره من أداء قوي في نتائج الجولة الأولى، فإن ثمة علامات استفهام تطرح نفسها بشأن السياسات الاقتصادية غير التقليدية التي يتبعها ومدى تأثيرها في المرحلة المقبلة، وما يحمله من أجندة اقتصادية تُعالج المشكلات التي يعاني منها الاقتصاد حالياً.
يأتي ذلك في وقت تحذر فيه تقديرات وكالات التصنيف العالمية من سيناريوهات "صعبة" تنتظر الاقتصاد التركي في ظل تلك السياسات القائمة. بينما على الجانب الآخر يجادل بعض المراقبين بأن الصدمات المُتتالية التي تعرض لها اقتصاد البلد منذ العام 2020 وحتى الآن (بدءًا من جائحة كورونا ووصولاً إلى زلزال فبراير الماضي، ومروراً بالحرب في أوكرانيا وتبعاتها المختلفة) كانت السبب الرئيسي خلف ما يعانيه الاقتصاد حالياً من ضغوطات، مُبرّئين ساحة السياسات "غير التقليدية" المُتبعة من المسؤولية.
لكن في ترجمة عملية لنتائج الجولة الأولى وما حملته من دلالات أساسية تُرجح كفة الرئيس المُنتهية ولايته في جولة الإعادة التي تُجرى يوم 28 مايو الجاري، عبّرت عدد من المؤشرات عن تصاعد المخاوف على نحو واسع.
- تعرضت الأصول التركية لضربة بعد فوز أردوغان على منافسه كمال كليتشدار أوغلو في الجولة الأولى من التصويت.
- قفزت تكلفة تأمين ديون تركيا ضد التخلف عن السداد خلال اليومين الماضيين، وارتفع الفارق على مقايضات التخلف عن سداد الائتمان لمدة خمس سنوات إلى 646 نقطة أساس من 506 نقطة أساس يوم الجمعة.
- جاء بيع الأصول التركية في الوقت الذي عكس فيه المستثمرون رهاناتهم على أن كليتشدار -الذي قاد استطلاعات الرأي قبل الانتخابات- سيعيد تركيا إلى السياسة الاقتصادية التقليدية، مما يلغي مجموعة من البرامج التي وضعها الرئيس التركي المُنتهية ولايته.
مخاطر واسعة
في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، يُعلق الكاتب الاقتصادي التركي ناغي بكير، على ذلك بقوله: "لقد خلق نظام الرجل الواحد عجزاً بالبلاد"، موضحاً أن درجة الـ CDS (مبادلات مخاطر الائتمان) مرتفعة للغاية، والتصنيف الائتماني للبلد متدنٍ.
ويضيف: "علاوة على ذلك فإن البلد بحاجة ماسة إلى الموارد الأجنبية، مع تدني احتياطات النقد الأجنبي، علاوة على أن هناك مديونية مفرطة وتضخم مرتفع"، مشدداً على أن البلاد في حالة صعبة اقتصادياً.
ويتابع الكاتب الاقتصادي التركي: "ليس لدى أردوغان خطة يُمكن أن ترتقي بالاقتصاد أو تمنع الإفلاس"، موضحاً أن تقييم التصنيف الائتماني لتركيا من قبل وكالات التصنيف الدولية "دقيق للغاية".
ماذا تقول وكالات التصنيف العالمية؟
رصد تقرير نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية أخيراً عدداً من التقديرات التي أعلنت عنها وكالات التصنيف ومؤسسات مالية كبرى بشأن مستقبل الاقتصاد التركي في ضوء ما أظهرته نتائج الجولة الأولى.
- وكالة موديز للتصنيف الائتماني: إذا فاز أرودغان فإن السياسات المالية غير التقليدية وغير المستدامة "سوف تستمر"، مع تزايد مخاطر التضخم والضغوط الكبيرة على الليرة التركية.. بينما تعود البلاد إلى السياسات التقليدية في حالة فوز كليتشدار، وبما ينعكس إيجاباً على الملف الائتماني السيادي على المدى الطويل.
- وكالة فيتش: نقل التقرير عن أحد كبار المديرين في الوكالة، إريك أريسبي، قوله إن العجز الكبير في الحساب الجاري في تركيا، والذي وصل إلى مستوى قياسي بلغ 24 مليار دولار في الربع الأول من هذا العام، كان أيضاً "مشكلة كبيرة".
- تقرير لـ HSBC الاثنين، أشار كذلك إلى أن عجز الحساب الجاري التركي كان أحد "نقاط الضعف" الرئيسية. وقال البنك إن البيانات التجارية لشهر أبريل تشير إلى أنه "لا يوجد مؤشر على أن التحسن جار على المدى القريب".
- توقع المحلل في باركليز، إركان إرجوزيل، وصول عجز الحساب الجاري إلى حوالي 40 مليار دولار في الأشهر الـ 12 المقبلة. بينما ستحتاج تركيا إلى حوالي 30 مليار دولار لتمويل ذلك العجز.
وبالعودة لتصريحات الكاتب الاقتصادي التركي، فإنه يشير في الوقت نفسه إلى الارتفاع السريع في أسعار الصرف، بعد أن "تم تحجيمه بطرق غير عادية حتى الانتخابات" وهو أمر لا مفر منه الآن.
- يلفت تقرير الفاينانشال تايمز المشار إليه إلى أن حكومة أردوغان طبقت مجموعة من الإجراءات غير التقليدية لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد التركي البالغ 900 مليار دولار.
- تضمنت تلك الإجراءات ضوابط مشددة على تحويلات الشركات للعملات الأجنبية وإطلاق حسابات التوفير الخاصة في العام 2021 لحماية المودعين من تقلبات الليرة، وغير ذلك.
- ساعدت هذه الأدوات في إبطاء انخفاض الليرة، على الرغم من أن العملة لا تزال تتداول بالقرب من أدنى مستوى قياسي لها عند 19.67 ليرة تركية للدولار.
- لكن عديداً من المحللين -طبقاً لتقرير الفاينانشال تايمز المشار إليه- يقولون إن قيمة الليرة لا تزال مبالغ فيها، ويرجع ذلك جزئياً إلى هذه الإجراءات والجهود المطولة التي يبذلها البنك المركزي لدعم العملة.
ويختتم بكير تصريحاته بقوله: "هناك جولة ثانية للانتخابات.. وإذا فازت المعارضة -وهو سيناريو ربما غير محتمل- فسوف تبدأ المؤشرات الاقتصادية والمالية في التحسن.. بينما السيناريو الآخر يضع البلد على حافة الإفلاس والانهيار"، على حد تعبيره.
ماذا يقول المدافعون عن سياسات الرئيس التركي؟
فيما لا يُحمل المؤيدون للرئيس التركي سياساته الاقتصادية مسؤولية ما آلت إليه الأمور بالبلاد، لا سيما في ضوء التطورات العاصفة التي أثرت تأثيراً مباشراً وكبيراً على الاقتصاد التركي، بدءًا من جائحة كورونا وانعكاساتها على الوضع الاقتصادي في تركيا، بما وضعته من تحديات هائلة، وبرغم تلك التحديات استطاع الاقتصاد التركي أن ينمو بمعدل وإن كان أقل من المتوقع، لكنه ظل يسجل نشاطاً قوياً، مسجلاً 5.9 بالمئة في الربع الرابع من عام تفشي الفيروس، و1.8 بالمئة في العام كله، ليكون بذلك واحداً من الاقتصادات "القليلة" على مستوى العالم التي تجنب الانكماش في عام الجائحة.
من بين العوامل أيضاً التي يُجادل بها مؤيدو الرئيس التركي والتي أثرت بشكل كبير على الأوضاع الاقتصادية، كانت الحرب في أوكرانيا وتبعاتها التي أثرت على اقتصادات العالم بأسره وخلفت تحديات بالجملة، بدءًا من أزمة أسعار الطاقة والغذاء وارتفاع معدلات التضخم، وأزمة سلاسل الإمداد وغيرها من الأزمات ذات الصلة التي لا يزال الاقتصاد العالمي يدفع ضريبتها حتى الآن.
كما عانت تركيا كذلك من تبعات الزلزال المُدمر الذي ضرب عدة مدن في السادس من شهر فبراير الماضي، والذي فاقت كلفته الاقتصادية الـ 100 مليار دولار، بحسب تقديرات الأمم المتحدة والتي أعلنت عنها مسؤولة ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لويزا فينتون، في وقت سابق.
وتبعاً لذلك، يميل بعض المراقبين إلى الدفاع عن سياسات الرئيس أردوغان والتي قال عنها الرئيس التركي بنفسه في وقت سابق إنها "سياسات خطرة ولكنها صائبة" فيما يخص خفض معدلات الفائدة، موضحاً في كلمة سابقة له أمام البرلمان التركي: "لقد تخلينا عن السياسات النقدية القائمة على معدلات فائدة مرتفعة وتحولنا إلى استراتيجية نمو تقوم على الاستثمارات والتوظيف والانتاج والصادرات.. لن يعود بلدنا إلى نظام الاستغلال القائم على معدلات فائدة مرتفعة".
وضع اقتصادي مُعقد.. وتبعات إقليمية ودولية
على الجانب الآخر، يعتقد الصحافي الاقتصادي التركي، كريم اولكر، بأنه "أياً كان الفائز في الانتخابات، فالاقتصاد في حالة ضعيفة.. إذا فاز كليتشدار فسيرث الأزمة الاقتصادية من أردوغان، وإذا فاز أردوغان فسيرث ما صنعته يداه!".
ويضيف: "تمر تركيا بأهم فترة انتخابات خلال نصف القرن الماضي، وأعتقد بأنها واحدة من أهم العمليات الانتخابية ليس فقط في تركيا ولكن أيضاً في العالم هذا العام (..) تُعد تركيا بوابة الخروج لروسيا المحظورة، كما أنها الدولة التي لديها أعلى فائض في الحساب التجاري مع الاتحاد الأوروبي.. وتبعاً لذلك لا يعني تغيير السياسة في تركيا بلدنا فحسب، بل يعني أيضاً الكثير لأوروبا والحرب في أوكرانيا ومنطقة الشرق الأوسط، خاصة سوريا".
ويلفت إلى أن "تركيا ليست قوية اقتصادياً في هذه العملية"، بالإشارة للوضع الاقتصادي، مبرزاً بعض التحديات التي يعيشها الاقتصاد التركي على النحو التالي:
- فاتورة الزلزال الأخيرة تصل إلى ما بين 100 إلى 150 مليار دولار وفق عدد من التقديرات.
- إدخال نظام التقاعد في سن مبكرة وضع أعباءً اقتصادية بمليارات الدولارت على كاهل اقتصاد البلد.
- تحافظ الحكومة على الهدوء من خلال تقديم المساعدة الاجتماعية باستمرار للجمهور.
- تبدو تركيا كشخص عاطل يعيش حياة فاخرة ويجدد ممتلكاته وسيارته. الكثير من الإنفاق غير المهم بالاعتماد على الديون.
- على مدار العشرين عاماً الماضية ، لم تتمكن تركيا من الحصول على استثمارات جديدة تزيد عن مليار دولار في المرة الواحدة. وتم إلغاء استثمارات كبيرة أو تخارجت من البلاد.
ويعتقد أولكر بأنه "لا يمكن للاقتصاد التركي -في ظل هذه الظروف- أن ينمو، وحتى لو حدث ذلك فلن ينعكس على الجمهور؛ مع ارتفاع معدلات التضخم الذي يجعل الحياة أكثر صعوبة"، وذلك علاوة على معدلات البطالة خاصة وأن "الاستثمارات التي تدخل البلاد عادة ما تكون تكون من المشتريات، أي أنها لا تخلق فرص عمل جديدة"، بحسب اولكر.
ويشدد على أنه "كان ينبغي أن تكون تركيا أكثر دولة استثمارية شعبية في العالم، ويمكن للمصنعين الغربيين الفارين من روسيا القدوم إلى تركيا، لكنهم لن يأتوا إذا لم تتغير الإدارة"، على حد تعبيره، معتقداً في الوقت نفسه بأنه "إذا فاز أردوغان فسوف تبدأ الدول الغربية في اتخاذ إجراءات صارمة وتحذيرات بشأن روسيا.. ربما الحظر أو العقوبات تبدو خيارات حتمية في هذا السياق".
ويذكر أن صافي الأصول الأجنبية في تركيا انخفض إلى 13 مليار دولار من 1.4 مليار دولار قبل عام ، وفقًا لبيانات البنك المركزي. وتشمل هذه الأرقام مليارات الدولارات من الأموال المقترضة من النظام المصرفي المحلي من خلال أدوات الإقراض قصيرة الأجل المعروفة باسم "المقايضات"، بحسب تقرير الصحيفة البريطانية.
انهيارات اقتصادية
وفي السياق، يقول رئيس تحرير الإندبندت التركية، زاهد غول، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن "المسألة الاقتصادية كانت أهم المسائل التي يدور النقاش حولها قبل الانتخابات، لأننا نتحدث عن انهيارات اقتصادية واضحة خلال السنوات الماضية"، مستعرضاً بعضاً من أوجه تلك الانهيارات، على النحو التالي:
- العملة التركية فقدت قرابة الـ 70 بالمئة من قيمتها خلال السنوات الثلاث الماضية.
- التضخم عند أعلى مستوياته.
- ارتفاع معدلات البطالة بشكل حاد (هناك رقم رسمي للبطالة، وآخر غير رسمي صادر عن مؤسسات مستقلة إلى حد ما).
- تشير التقديرات إلى أن أعداد البطالة أعلى في صفوف الشباب الجامعيين.
- تراجع واضح جداً لدخل الفرد في تركيا، وربما هذه هي الانتخابات الأولى التي يخوضها أردوغان وقد تراجع دخل الفرد التركي بشكل ملموس.
ويتحدث غول عن تقلص الطبقة المتوسطة التي تمثل غالبية المجتمع التركي وموظفي الدولة، وهي الطبقة التي "تشعر الآن بالفقر بشكل واضح، وبأن مدخراتها قد انتهت خلال السنوات الأخيرة".
ويشير الكاتب الصحافي التركي في الوقت نفسه إلى أنه "من المؤكد أن أردوغان لم يقدم رؤية جديدة في هذا السياق، ولم يعط أملاً إلا من خلال الوعود العامة، إذ لم يقدم لنا أنه سيقوم على برنامج اقتصادي جديد، بينما المعارضة قدمت في هذا السياق".
ويتطرق غول إلى نتائج الجولة الأولى من الانتخابات، مشيراً إلى أن "هاجس الهوية والقوميين الأتراك عموماً هم أكبر الرابحين في الانتخابات، ومع حظوظ أردوغان في الجولة الثانية يُمكن أن نتحدث عن أن الواقع الاقتصادي لن يتغير وربما يزداد سوءًا بطبيعة الحال، بدليل أداء مؤشرات البورصة خلال الأيام الماضية، وكذلك السندات التي تتعلق بديون الدولة التركية (..)".
ويختتم رئيس تحرير الإندبندت التركية، تصريحاته لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، قائلاً: "وتبعاً لذلك، نحن أمام مشكلة اقتصادية سوف نرى نتائجها وتداعياتها وتجلياتها السلبية، خاصة أننا نتحدث عن وعود انتخابية من غير المعروف كيف ستعمل الدولة على تحقيقها، سواء حكمت المعارضة أو الحكومة (..) نحن كذلك مقبلون على انتخابات محلية في مارس 2024 أي بعد أقل من عام من الآن، وسنرى هل في هذه المرّة هل سيلعب ميزان الاقتصاد دوراً أم سيبقى الأمر على ما هو عليه الآن".