تتجدد الاتهامات الألمانية من وقتٍ لآخر للولايات المتحدة الأميركية، باستغلال أزمة الطاقة التي تعاني منها القارة العجوز بعد الحرب في أوكرانيا، وفي هذه المرة تتلخص الانتقادات الألمانية ضد أميركا بتقديم الأخيرة الغاز المسال بأسعار أعلى وجودة أقل (من وجهة النظر البيئية).
تُشارك ألمانيا تلك الانتقادات بعض الدول الأوروبية، من بينها فرنسا، وهو ما عبر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عقب قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، أكتوبر الماضي، عندما انتقد ما وصفه بـ "ازدواجية المعايير الأميركية"، وقال إن "الغاز الأميركي أرخص بثلاث إلى أربع مرات في السوق المحلية من السعر الذي يشتري به الأوروبيون".
وأخيراً نقلت صحيفة غلوبال تايمز، عن عضو مجلس النواب الألماني، أندريه هونكو، قوله إن بلاده تتلقى الآن كثيراً من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة "أغلى بكثير وأسوأ من وجهة نظر بيئية مقارنة بالغاز الروسي".
وازدادت الواردات الأوروبية من الغاز الطبيعي المسال بنسبة 63 بالمئة في العام 2022، طبقاً لتقرير صادر عن الوكالة الدولية للطاقة، جاء فيه:
- زيادة الطلب الأوروبي أدت إلى رفع الأسعار ومضاعفة قيمة السوق العالمي للغاز الطبيعي المسال في 2022 إذ سجّلت مستويات غير مسبوقة بلغت 450 مليار دولار، في حين تزايد حجم السوق بنسبة 6 بالمئة فقط.
- تتوقع الوكالة تزايد نمو السوق العالمية في 2023 بنسبة 4.3 بالمئة إضافية.
- زادت كميات الغاز الطبيعي المسال التي تستوردها أوروبا بمقدار 66 مليار متر مكعب.
- عاد ذلك بالفائدة على الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، والتي وفّرت ثلثي هذا التدفق الإضافي أي 43 مليار متر مكعب.
- اعتمدت أوروبا على موردين آخرين لتأمين حاجاتها هم قطر (5 مليارات متر مكعب)، مصر (5)، النرويج (3)، أنغولا (2)، وجزيرة ترينيداد وتوباغو (2). فضلاً عن تسلّم أوروبا ملياري متر مكعب من روسيا.
انتقادات "ليست في محلها"!
الخبير بمعهد دلتا للطاقة في هولندا، تييري بروس، يعلق على تلك الانتقادات الألمانية المُتكررة للغاز المسال الأميركي، بالإشارة إلى أن الأسعار عادة ما تكون محكومة بقوى السوق (العرض والطلب).
ويضيف خبير الطاقة الأوروبي: "الأسعار مدفوعة بالسوق.. يجرى التسعير بنفس المستوى والمعايير في أوروبا، سواء كان الغاز الطبيعي المسال الأميركي أو غاز الأنابيب النرويجي والتسعير الخاص بكل منهما (..)"، مُلمحاً إلى أن ثمة اختلالات في إدراك كيفية عمل أسواق الطاقة في هذا الشأن من جانب البعض، مما يدفع إلى إثارة تلك الانتقادات.
ولا يعتقد بروس بأن ثمة اختلافاً فيما يتصل بـ "الجودة" والمعايير البيئية، كما تحدث النائب الألماني في تصريحاته، قائلاً: "يكون الغاز عبارة عن ميثان نقي، لذا فإن الجودة هي نفسها (..)75 بالمئة من الانبعاثات ناتجة عن حرق الغاز وعدم إنتاجه وشحنه.. إذا أراد النائب الألماني المذكور أن يكون الغاز نظيفاً فعليه فقط إغلاق جميع الأنشطة الاقتصادية الألمانية!".
ويعتقد خبير الطاقة الأوروبي بأن ثمة أسباباً سياسية ربما تحرك تلك الانتقادات الموجهة إلى الولايات المتحدة الأميركية، من بينها العلاقة مع روسيا على سبيل المثال، فضلاً عن أسباب مرتبطة بالتطورات الاقتصادية الداخلية في ضوء تراجع معدلات النمو.
تحذير "بوتين" قبل "الحرب في أوكرانيا"
على العكس من ذلك، يقول خبير الشؤون الأوروبية من بروكسل، محمد رجائي بركات، إن تصريحات عضو مجلس النواب الألماني أندريه هونكو هي تصريحات صائبة تماماً تعكس الحقيقة؛ فهو يشير إلى أن دول الاتحاد الأوروبي من أجل استبدال الغاز الذي كانت تستورده من روسيا بأسعار رخيصة أصبحت الآن تستورد كميات أكبر من الولايات المتحدة بأضعاف السعر الروسي.
ويضيف بركات، في تصريحات لـ "اقتصاد سكاي نيوز عربية": الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه كان قد أشار في مؤتمر سابق مع المستشار الألماني أولاف شولتس، قبيل الحرب في أوكرانيا، إلى أن برلين في حال توقف الغاز الروسي عنها فإنها ستشتريه بأسعار مضاعفة، ما سينعكس بطبيعة الحال على أسعار الغاز للمستهلكين.
ويقول الخبير في العلاقات الدولية إن الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة ليس بنفس نوعية وجودة الغاز القادم من روسيا، والمستهلكون في بلجيكا على سبيل المثال غيروا جزءاً من أجهزة التدفئة كي تتلائم مع الغاز الأميركي، ما يعني نفقات إضافية على المواطنين، وغيرها من الأمثلة الدالة على ذلك.
وتقوم الصناعة الألمانية بالأساس على الغاز بشكل كبير، وقبل بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، كانت واردات الغاز الروسي تشكل 55 بالمئة من إمدادات البلاد من الغاز الطبيعي.
وقطعت شركة غازبروم الروسية العملاقة للغاز المملوكة للدولة الإمدادات عن أوروبا بشكل كبير خلال الأشهر الماضية، ويرجع ذلك إلى إلى العقوبات الدولية وكذلك الرغبة الروسية في معاقبة أوروبا.
انتقادات متكررة
الانتقادات الألمانية التي عبر عنها النائب أندريه هونكو، ليست جديدة داخل برلين؛ ففي شهر أكتوبر الماضي، عبر وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك عن استنكاره لطلب دول صديقة، في مقدمتها الولايات المتحدة، من ألمانيا "أسعار خيالية" لتوريد الغاز من أجل تعويض وقف الشحنات الروسية، وقال إن "بعض الدول، حتى الصديقة، تحصل أحياناً على أسعار خيالية، وهذا يطرح مشكلة مهمة". كما دعا المفوضية الأوروبية إلى بحث ذلك مع هذه الدول.
ولا تقتصر الأصوات التي تتهم أميركا باستغلال أزمة الطاقة الأوروبية والعمل على تعميقها على ألمانيا أو دول أوروبية أخرى فقط، بل حتى داخل الولايات المتحدة نفسها؛ وهو ما يؤكده الصحافي الاستقصائي الأميركي الشهير سيمور هيرش، والذي ذكر أن الرئيس الأميركي جو بايدن هو من أمر بتفجير خط غاز نوردستريم.
وكان هيرش، في لقاء مع "سكاي نيوزعربية"، قد ذكر أن الرئيس بايدن بعد ثلاثة أشهر من الحرب اجتمع مع عدد من المسؤولين بحضور مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان ومسؤولين من وكالة الاستخبارات المركزية، عرضت عليه سيناريوهات كان من بينها تفجير خط نوردستريم وهو ما تم تنفيذه بعد ذلك.
وفي تصريحاته المشار إليها، عقب عضو مجلس النواب الألماني، أندريه هونكو، على ذلك بقوله إن ما كشف عنه "هيرش" لم يتم إثباته بعد، إلا أنه يبقى تفسيراً محتملاً. مضيفاً: "ما ذكره هيرش هو القصة الأكثر موثوقية حتى الآن بشأن تفجير خط غاز نورد ستريم".
كما تم تقديم عدة استفسارات إلى الحكومة الألمانية بشأن تورط "واشنطن" في تلك الأعمال وفق "هونكو"، فيما اكتفت الحكومة بالتأكيد أن مكتب النائب العام يعمل على هذا الأمر، وأنه لا يمكن تزويدهم بمزيد من المعلومات كون الأمر يتعلق بمصالح الدولة.
الأصوات المنتقدة لوقف شراء الغاز من روسيا تتعالى
وفي معرض حديثه مع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، يقول خبير الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات إنه خلال الفترة الأخيرة يمكن ملاحظة تعالي الأصوات التي تنتقد موقف الاتحاد الأوروبي من شراء الغاز الطبيعي المسال من روسيا، موضحاً أنه في البداية كانت هذه التصريحات تصدر عن داخل الأوساط السياسية والمثقفين، لكن الآن أصبح كثير من المواطنين وكذلك مراكز الدراسات تتبنى هذا التوجه الساعي للحصول على الغاز من روسيا؛ خصوصاً مع المقارنة بين الأوضاع قبل وبعد الحرب.
ويلفت إلى معضلة الارتفاع في تكلفة المعيشة ومعدلات التضخم المرتفعة في أوروبا، مع موجة الارتفاعات العارمة في أسعار المواد الغذائية، والمظاهرات والتحركات التي تقوم بها نقابات عمالية، وجميعها عوامل تثير مزيداً من المخاوف الأوروبية.