يبدو أن الانعكاسات السلبية للسياسة النقدية المتشددة التي اتبعها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في محاربة التضخم بدأت تتضح الآن، حيث يرى بعض المحللين أن سياسة رفع الفائدة الأميركية وما أحدثته من اضطرابات في سوق السندات، كانت لها اليد الطولى بانهيار بنك سيلكون فالي.
ورفع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي معدلات الفائدة سبع مرات خلال العام 2022، ومرة واحدة حتى الآن خلال 2023، لتتراوح حالياً بين نطاق 4.5 في المئة إلى 4.75 في المئة، وذلك بعد أن كان معدل الفائدة قريب من 0.25 في المئة في بداية 2022.
تطور مسار التضخم
يهدف الفيدرالي من خلال رفعه لمستويات الفائدة الى محاربة التضخم، فهو على مدار عام كامل، كان يركز بشكل أساسي على كيفية جعل التضخم ينخفض إلى مستوى 2 بالمئة، وذلك بعد أن بلغ أعلى مستوياته في نحو 4 عقود خلال 2022.
ورغم ذلك، فقد أظهرت بيانات شهر يناير 2023، أن التضخم في أميركا لا يزال يسير بمعدل 6.4 في المئة، وهو ما يعني أن التضخم لا يزال بعيدا عن هدف المركزي الأميركي، وهذا تحديداً ما دفع بمحافظ الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جيروم باول، إلى الإعلان قبل نحو أسبوع، أن المستوى النهائي لأسعار الفائدة قد يكون أعلى مما كان متوقعاً في السابق.
أين تكمن مشكلة انهيار سيلكون فالي؟
وعادة في ظل ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية، تنخفض أسعار السندات بينما ترتفع عوائدها، كي لا تفقد جاذبيتها بالنسبة للمستثمرين، الذين ستستقطبهم عوائد الفائدة المرتفعة على حسابات التوفير البنكية، حيث تكمن المشكلة الرئيسية التي تسببت بانهيار بنك سيلكون فالي، في حيازته الكبيرة لسندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات والتي انخفضت قيمتها.
وتتجه الأنظار حاليا إلى قرار الفائدة الذي سيصدر بعد الاجتماع الذي سيعقده الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في 21 و22 مارس، وسط تساؤلات حول ما كان الفيدرالي سيضطر لتغيير قواعد اللعبة بالنسبة لمسار الفائدة بعد انهيار بنك سيلكون فالي.
ورغم تدخل الإدارة الأميركية السريع لاحتواء الأزمة عبر ضمان ودائع عملاء بنك سيلكون فالي بالإضافة إلى إتاحة آليات للتمويل السريع للبنوك من أجل تعزيز السيولة، إلا أن هناك حالة قلق عالمي من انتقال العدوى إلى قطاع المصارف الدولي، وهو ما أدى إلى موجات بيعية كبيرة في الأسواق.
تغيير قواعد اللعبة؟
يقول محلل أسواق المال في CFI جورج خوري، لـ "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الفيدرالي الأميركي ليس مضطراً في الوضع الحالي لتغيير قواعد اللعبة بالنسبة لمسار الفائدة، ولكن ما هو واضح حتى الآن، هو أننا لن نرى رفعاً للفائدة بواقع 50 نقطة أساس، في الاجتماع المقبل للفيدرالي، فهو لم يعد بحاجة للقيام بهذه الخطوة الآن، مشيراً إلى أن البيانات الاقتصادية الجديدة، أتت لتدعم هذا المسار ولتقول للفيدرالي أنك لست بحاجة للمزيد من التشدد في قراراتك في الوقت الراهن، فالتضخم ينخفض والحركة الاقتصادية تتراجع والبطالة ترتفع.
وبحسب خوري فإن البيانات الجديدة أظهرت أن مؤشر أسعار المستهلكين الرئيسي في أميركا، سجل تراجعا من 6.4 بالمئة في يناير 2023 إلى 6 بالمئة في فبراير 2023، في حين أن نسبة البطالة ارتفعت من 3.4 بالمئة الى 3.6 بالمئة في الفترة نفسها، أما القطاع الخاص غير الزراعي، فقد أضاف وظائف أقل من القراءة السابقة، ما يعني أن علامات الانكماش بدأت بالظهور على الاقتصاد الأميركي، وأن الفيدرالي ليس مضطراً الآن لرفع الفائدة بمستوى قوي.
من يتحمل مسؤولية ما حصل؟
ويؤكد خوري أن تحميل السياسة النقدية التي انتهجها الفيدرالي الأميركي، مسؤولية ما حصل مع بنك سيلكون فالي هو أمر مبالغ فيه، مشيراً إلى أن طريقة إدارة البنك لأمواله كانت خاطئة، حيث عمد في 2019 إلى استخدام الودائع بهدف شراء سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات، وذلك دون حماية نفسه من احتمال تقلبات أسعار الفائدة، ما أدى إلى عدم تطابق بين موجوداته والتزاماته عندما انخفضت قيمة السندات، مع عدم تمكنه من تحويلها إلى سيولة كونها لأجل عشر سنوات.
ويرى خوري أن الخطأ الذي ارتكبه بنك سيلكون فالي، يكمن في تركيزه على الاستثمار بسندات خزانة لأجل 10 سنوات، وإهماله الاستثمار بسندات لأجل أقل، ما كان سيتيح له تحويل هذه السندات إلى سيولة.
سياسة رفع الفائدة بمستويات سريعة
من جهته يقول الخبير الاقتصادي السابق في صندوق النقد الدولي، منير راشد، في حديث لـ"اقتصاد سكاي نيو عربية"، إن السياسية النقدية التي اتبعها المركزي الأميركي، برفع الفائدة بمستويات سريعة، كانت مصدراً في زيادة المخاطر على المؤسسات المصرفية التي تعاني من هشاشة في وضعها مثل بنك سيلكون فالي، وليس المؤسسات المصرفية القوية، مشيرا إلى أن محاربة التضخم في أميركا كانت تسير بسرعة كبيرة وهذا الأمر له تكلفة عالية.
ويرى راشد أن تغيير الفيدرالي الأميركي لقواعد اللعبة، بالنسبة لمحاربة التضخم عبر رفع الفائدة ليس بالأمر السهل، مشيراً إلى أن معالجة التضخم يمكن أن تتم إما عبر السياسة النقدية أو عبر السياسية المالية أو حتى بمزيج من الاثنين، حيث اختارت أميركا محاربة التضخم بشكل أساسي، عبر السياسة النقدية ورفع الفوائد، بهدف تشجيع الناس على الادخار وتخفيف الإنفاق.
ويشير راشد الى أن محاربة التضخم عبر السياسة المالية أمر صعب، ويقضي بتقليص النفقات الحكومية والرواتب والأجور ورفع الضرائب، وهذا الأمر يحتاج إلى وقت، وبالتالي فإن الفيدرالي الأميركي سيستمر بقيادته لمسار محاربة التضخم وصولاً إلى هدف 2 بالمئة، بسبب صعوبة تغيير هذا الواقع.