"بريطانيا في طريقها إلى أن تصبح أفقر من دول أوروبية مثل بولندا وهنغاريا ورومانيا".. تحذير أثار كثيراً من الجدل خلال الأيام الأخيرة أطلقة زعيم حزب العمال البريطاني، السير كير ستارمر، معبراً عن حجم الأزمة الداخلية التي يعيشها البريطانيون.
تصريحات ستارمر عكست حقيقة الوضع الاقتصادي في لندن، الذي يزداد سوءاً يوماً تلو الآخر؛ وهو ما تؤكّده تقارير صندوق النقد الدولي الذي يتوقّع أن تكون بريطانيا "الدولة الوحيدة" بمجموعة السبع التي تشهد ركوداً في 2023، مقدّراً ذلك الركود بنسبة 0.6 بالمئة، اعتماداً على ارتفاع أسعار الفائدة والضريبة على الدخل.
يدفع الاقتصاد البريطاني ضريبة أزمات مركبة عانى منها خلال السنوات الماضية، وهو ما دفع لتصاعد التوقعات المتشائمة فيما يخص مستقبل الأوضاع بالبلاد.
2.5 مليون شخص وقعوا في براثن الفقر
أستاذ الاقتصاد مستشار البنك الدولي، الدكتور محمود عنبر، يلفت في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إلى تقديرات تشير إلى سقوط حوالي 2.5 مليون شخص في بريطانيا في براثن الفقر مع بداية العام الجاري 2023 على وقع الأوضاع الصعبة غير المسبوقة التي تعيشها البلاد.
ويوضح أن "الاقتصاد البريطاني يعاني بالأساس من مشاكل هيكلية مؤثرة، كما أن معدلات الدين الحكومي مقابل الناتج الإجمالي المحلي تقارب نسبة الـ 100 بالمئة، وغيرها من المشكلات الأساسية التي تفاقم الأزمة الاقتصادية هناك، إلى جانب إشكاليات ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي"، موضحاً في السياق نفسه أن تداعيات الحرب في أوكرانيا سرّعت من انكشاف الأوضاع في لندن وتفاقمها.
ويوضح الخبير الاقتصادي أن العالم يواجه أزمة هي الأصعب من نوعها في تاريخ الأزمات الاقتصادية في تقديره، وهي نتاج الحرب في أوكرانيا، لا سيما في ظل الغموض الذي يكتنف مستقبل الحرب الحالية، إذ ليس باستطاعة أية مؤسسة دولية التكهن بما سوف يحدث مستقبلاً، أو بمصير النظام الدولي عموماً، في ضوء السيناريوهات المطروحة التي قد تغير الخارطة السياسية والاقتصادية في العالم.
ويتابع: "القارة العجوز تأثرت بشدة بتداعيات الحرب.. وأعتقد بأنه حتى لو لم تحدث أزمة جائحة كورونا ومن بعدها الحرب في أوكرانيا، لكانت أوروبا قد شهدت أيضاً أزمة مالية مماثلة، ولا سيما في بريطانيا في ظل المشكلات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد هناك.. الأزمة في أوكرانيا جاءت كاشفة لتلك الأزمات وليست مُنشئة لها، فقد عجلت بها بشكل كبير".
الفئات الأكثر ضعفاً
وتتأثر الفئات الأكثر ضعفاً بهذا الواقع في بريطانيا، لا سيما الأطفال. ويعبر عن جانب من ذلك الوضع مقال عضو البرلمان عن حزب العمال، روشانارا علي، عبر موقع بوليتيكس هوم، والتي ذكرت فيه أن:
- هناك 4 ملايين طفل يعيشون في فقر مدقع بالمملكة المتحدة، حيث تسلل الفقر إلى عديد من الأسر خلال الـ 12 عاماً الماضية.
- هذا العدد كان 2 مليون و400 ألف في 2010، أي أن العدد تضاعف تقريباً خلال تولي المحافظين إدارة شؤون البلاد، على حد وصفها.
- هذه الأرقام نتاج تخفيضات على مدار سنوات في الضمان الاجتماعي وعقد من التخفيضات في أجور العاملين بالقطاع العام.
- تسببت سياسات المحافظين في تفاقم الفقر حتى أن رعاية الأطفال حالياً تتكلف وحدها 60 بالمئة من دخل الزوج والزوجة العاملين بدوام كامل.
- تعد مناطق شمال شرق بريطانيا الأكثر معاناة مع الفقر الذي يطال الأطفال.
- نصف الأطفال الذين ينتمون لأسر لديها أكثر من طفلين يعيشون تحت خط الفقر.
تراجع الاقتصاد البريطاني بشكل حاد
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي في لندن الدكتور أنور القاسم، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إنه كما هو معروف فإن تراجع الاقتصاد البريطاني خلال السنوات العشر الماضية يأتي نتيجة عوامل جوهرية متزامنة، منها: أن البلاد لم تعد دولة صناعية بالشكل المعروف كما كانت في السابق، بعد أن ركزت على القطاعات الخدمية.. جنباً إلى جنب مع تراجع اقتصاد البلاد للمركز السادس عالمياً لتحل محلها مستعمرتها السابقة الهند بالمركز الخامس.
وأمام ذلك الوضع، يتخوّف البريطانيون من عجزهم عن توفير الاحتياجات الأساسية خلال المرحلة المقبلة، وهو ما تظهره نتائج استطلاع رأي أجرته FocalData كشف عن أن أكثر من 60 بالمئة من البريطانيين قلقون فيما يخص توفير الضروريات الأساسية.
يأتي ذلك في وقت تهيمن فيه أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة على البلاد، في خط متواز مع ارتفاع معدلات التضخم لأعلى مستوى منذ عقود.
ويضيف الخبير الاقتصادي: "كان حزب المحافظين يعوِّل كثيراً على اتفاق تجاري هو الأضخم مع الولايات المتحدة بعد وعود الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب للندن إن خرجت من الاتحاد الأوروبي، لكن ما حدث أن قدوم الديمقراطيين بزعامة جو بايدن أحبط هذه الوعود، وبالتالي تبخرت خطط حكومة المحافظين التي كانت تعول على التحول إلى التكنولوجيا الاقتصادية".
الاقتصاد البريطاني الأكثر تراجعا بين الدول الكبرى منذ 2009
ويشير القاسم، في معرض حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
• الاقتصاد البريطاني انخفض أكثر من أية دولة من الدول الكبرى منذ 2009
• شهدت استثمارات القطاع الخاص ركوداً واضحاً
• فقدت بريطانيا أكثر من مليون وظيفة بعد جائحة كورونا بما يعادل 4 بالمئة من مجموع اليد العاملة
• تفاقم الأزمة الاقتصادية بسبب سياسات الحكومة في التعامل مع قضية المهاجرين
• بمقارنة وضع الاقتصاد البريطاني ما قبل البريكست وبعده يظهر أنه قبل سنة 2016 كان يعادل 90 بالمئة من الاقتصاد الألماني، وكانت التقديرات حينها أن اقتصاد المملكة المتحدة سيتجاوز نظيره الألماني بحلول العام 2024، أما الآن فهو يعادل 70 بالمئة فقط من اقتصاد ألمانيا
ولفت إلى تقديرات تتحدث عن أن السوق البريطانية تحتاج حاليّاً لأكثر من مليوني عامل لسد الفراغ الحاصل الآن، موضحاً أنّ "ثمة إشكاليات بنيوية بات يعاني منها الاقتصاد البريطاني، يتعين معالجتها".
سياسة التقشف أضرت بخدمات أساسية
ومنذ وصوله للسلطة اتبع حزب المحافظين سياسات تقشفية كان يعتبرها ضرورية؛ لكن تلك السياسات تعرّضت لانتقادات واسعة.
وفي هذا السياق، يقول مدير مؤسسة جونسن للأبحاث بلندن، عمار وقاف، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن تصريحات زعيم حزب العمال التي حذر فيها من معدلات الفقر في بريطانيا، تأتي في نفس سياق انتقادات حزب العمال لسياسات حزب المحافظين خلال العقد الأخير، موضحاً أن سياسة التقشف التي اتبعها حزب المحافظين، منذ أن خسر العمال في انتخابات 2010 ببريطانيا، أدّت لتدهور قطاعات خدمات أساسية مثل الصحة والتعليم وحتى الأمن الداخلي.
ويلفت إلى أن الحزبين الرئيسيين في بريطانيا يخوضان معركة تمهيدية للانتخابات المقبلة، والتي يفترض أن تُجرى بعد عامين من الآن، ويتسابقان لكسب ود الناخبين، ومن الأدوات الأساسية لتحقيق ذلك، إخافة الناس من عواقب تولي الطرف الآخر السلطة في تلك الانتخابات.