لم تعد خفية مساعي "محور الشرق الصاعد" المتمثل في كلٍ من روسيا والصين، إلى كسر هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، في خطٍ متوازٍ مع ما يشهده العالم من تحولات جيوسياسية عميقة تضع قواعد النظام الدولي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على "المحك" في ظل المعطيات الراهنة وما تشهده تركيبة التفاعلات الدولية من متغيرات جذرية تفتح الباب أمام "عالم جديد يتشكل".
الدولار بوصفه القوة الأميركية الضاربة في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وبعد أن حلّ محل الجنيه الاسترليني كعملة احتياطي عالمي رئيسية بموجب اتفاق بريتون وودز إبان نهاية الحرب العالمية الثانية، يواجه تحديات متزامنة تُهدد سيطرته التقليدية على المعاملات المالية الدولية، وهي تحديات ليست بالجديدة كلياً؛ ذلك أن العقود الماضية قد شهدت محاولات مختلفة لإضعاف الأخضر الأميركي بوسائل مختلفة لم يُكتب لها النجاح.
وفي ضوء التفاعلات الإقليمية والدولية الراهنة ضمن جملة المتغيرات الجيوسياسية، تجددت تلك المحاولات، في وقت تبزغ فيه مجموعة من الشواهد الأساسية المُحركة للمشهد، يأتي في مقدمتها مساعي موسكو وبكين في هذا الصدد بالتعاون مع بلدان أخرى، فضلاً عن التلميح السعودي المرتبط بالتخلي عن "البترودولار" وبما يحمله ذلك من دلالات عميقة تضع مستقبل العملة الأميركية في خطر مُحدق.
مصطلح البترودولار
يشير مصطلح "البترودولار" الذي صاغه لأول مرة أستاذ علم الاقتصاد في جامعة جورج تاون الأميركية، إبراهيم عويس، في العام 1973، إلى قيمة النفط المشتري بالدولار الأميركي.
بزغ المصطلح مع توصل المملكة العربية السعودية في العام 1974 إلى اتفاق مع الإدارة الأميركية برئاسة ريتشارد نيكسون آنذاك، يقضي بتسعير صادرات الأولى من النفط بالعملة الأميركية.
وتضمن الاتفاق آنذاك شراء المملكة سندات خزانة أميركية. وقد سارت عديد من الدول الأخرى على نفس نهج المملكة، ليرتبط تسعير النفط بالدولار، وبما يتطلبه ذلك من الاحتفاظ باحتياطات أجنبية به.
لكنّ الدولار الآن يواجه محاولات مُزعزعة لسيطرته. ويقول الاقتصادي الأميركي البارز جيفري ساكس، في تصريحات لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن دور العملة الأميركية "سوف يتضاءل بشكل كبير خلال العقد المقبل".
على الجانب الآخر، فإن تقرير صادر عن المجلس الأطلسي (مؤسسة بحثية أميركية غير حزبية مؤثرة في مجال الشؤون الدولية)، يقلل نسبياً من شأن تلك المحاولات على المدى المنظور، ويشير إلى أن:
- القلق بشأن الدولار الأميركي هو قلق قديم في واشنطن وخارجها، فيما لا تزال مزايا الدولار متجذرة بعمق في النظام المالي العالمي
- عديد من البلدان ترغب في الابتعاد عن الدولار حتى لو لم يكن ذلك سهلاً ولا يوجد بديل واضح على المدى القريب
- حصة الدولار من احتياطيات النقد الأجنبي آخذة في الانخفاض، والدول في جميع أنحاء العالم - ليس فقط المنافسون للولايات المتحدة مثل الصين ولكن أيضًا دولًا مثل الهند وإندونيسيا وماليزيا وجنوب إفريقيا - تستثمر في تقنيات مثل العملات الرقمية للبنك المركزي يمكن أن تجعلهم أقل اعتماداً على الدولار
- نظام العقوبات العالمي غير المسبوق الذي فُرض بسرعة على روسيا أدى إلى زيادة احتمالية الابتعاد السريع عن الدولار (وإن كان احتمالاً ضئيلاً بنسبة 15 بالمئة)
آثار عكسية لعسكرة الدولار
لكن ساكس، يعتقد بأن "التجارة الدولية ستظل بالدولار وستظل العملة الأميركية تلعب دوراً رئيساً بها، إلا أنّها لن تكون العملة المهيمنة كما هو الحال اليوم".
ويستطرد الخبير الاقتصادي: "أدَّت عسكرة الدولار (على سبيل المثال فيما يتصل بالعقوبات المفروضة على روسيا وفنزويلا وأفغانستان ودول أخرى) إلى تسريع وتيرة تحرُّك عديد من البلدان لتسوية المعاملات الدولية بعملات غير الدولار والاحتفاظ بحصة أكبر بكثير من احتياطات النقد الأجنبي بعملات أخرى".
وفي السياق، يؤكّد ساكس أنَّ "انتقال الدول للاعتماد واسع النطاق على عملات البنوك المركزية الرقمية، سيقلل من دور البنوك التجارية الدولية في التسويات الدولية؛ لذلك، فإن نظام سويفت، الذي تسيء الولايات المتحدة استخدامه لأغراض سياسية، سوف يتضاءل تأثيره بشكل كبير".
انفتاح عديد من الدول على التعامل بالعملات الوطنية من الشواهد المرتبطة بتسارع محاولات كسر هيمنة الدولار.
من بين تلك الدول مجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا)، الساعية إلى الحد من اعتمادها على الأخضر الأميركي في تجارتها البينية. ومن بين أبرز الدول التي عبرت عن اهتمامها بالانضمام للتكتل، السعودية والجزائر ومصر والإمارات وإيران.
تداعيات الحرب في أوكرانيا
وأسهمت تبعات الحرب في أوكرانيا بشكل واضح في تعزيز رغبة عديد من الدول في التعامل بالعملات الوطنية في التبادلات التجارية. وطبقاً للاستاذ بكلية الاقتصاد في جامعة بلغراد الصربية، ليوبودراج سافيتش، فإن "الحرب في أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية على روسيا "تدفع بعديد من البلدان في العالم للبدء بالتفكير في أشكال أخرى من التعاون الدولي، ما يزيد بشكل كبير من اهتمام بعض الدول بالتعاون والعضوية في مجموعة البريكس، وهو ما سيقلل آجلاً أم عاجلاً من دور الدولار في نظام المدفوعات الدولية".
ويوضح أن "البريكس" تأسست لهدفين؛ أولاً، ضمان التعاون الاقتصادي بين الأعضاء قبل كل شيء، وثانياً تأسيس نموذج فعّال لمعارضة الموقف المهيمن للغرب الذي تقوده واشنطن، مشدداً على أن "مجموعة دول البريكس هي اليوم القوة الوحيدة التي يمكنها معارضة أهداف الغرب والولايات المتحدّة بشكل فعال (..)".
ويعتقد بأن "رغبة السعودية في أن تصبح عضواً في تجمع البريكس مثيرة للاهتمام بشكل خاص لسببين؛ الأوّل كونها الحليف الأكثر موثوقية لأميركا لعقود في الشرق الأوسط، والثاني كونها واحدة من أكبر منتجي النفط في العالم (..) وبالتالي يشكل ذلك ضربة خطيرة لموقف البترودولار (..)".
وبشكل عام، يوضح الاستاذ بكلية الاقتصاد في جامعة بلغراد الصربية، أنّ الدولار لا يزال يهيمن على التبادل التجاري والمدفوعات العالمية؛ انطلاقاً من حقيقة أنّ الولايات المتحدة هي القوة الاقتصادية المهيمنة بالعالم (..) مشيراً إلى أنه:
- منذ نشأة العالم أحادي القطب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، هُدد موقف البترودولار اقتصادياً لأول مرة من قِبل الصين؛ حيث سجّلت معدلات نمو من رقمين على مدى عقد من الزمان
- الأمر ذاته مع روسيا التي تمتلك إمكانيات هائلة عسكرياً واحتياطيات ضخمة من الغاز والنفط والمواد الخام وفوائض الحبوب".
لم يتوقف الأمر عند مجموعة البريكس، لكن منظمة شنغهاي أعلنت أيضاً على لسان أمينها العام في يناير الماضي، إنشاء "مجموعة خبراء بهدف تنفيذ خارطة طريق لزيادة التسويات المتبادلة بالعملات الوطنية".
في وقت تسعى فيه مجموعة البريكس ومجموعة دول أميركا الجنوبية والبحر الكاريبي إلى إنشاء عملات جديدة، وذلك ضمن الشواهد المرتبطة بمحاولات التخفيف من الاعتماد على الدولار.
الدولار لا يزال مهيمناً
من جانبه، يُقلل الكاتب البريطاني المتخصص في أسواق الطاقة، باتريك هيرين، من مدى تأثير اتجاه عدد من الدول للتعامل بالعملات الوطنية، قائلاً في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": لا أعتقد بإمكانية أو حتى قبول فكرة البيع والشراء بالعملة المحلية على نطاق واسع طالما أنّ الدولار لايزال يهيمن على الأسواق العالمية.
ويعتقد بأن "الفائدة الأساسية في دفع واردات النفط بالعملة الوطنية يجنيها المشتري نفسه؛ لأنها تقضي على مخاطر توفير الدولار، بينما على الجانب الآخر فإن الفائدة التي تعود على البائع تكون أقل وضوحاً، لأنّها تعتمد على قوة العملة التي يتلقاها؛ لذلك يظل الدولار هو الوسيلة الرئيسية للتبادل في التجارة الدولية؛ لأنه الأكثر سيولة وقبولاً على نطاق واسع"، لكنه في الوقت نفسه يتحدث عن "عوامل سياسية" قد تجعل البائع على استعداد لقبول الدفع بعملة المشتري.
ويشير هيرين إلى أن "هذه ليست المرّة الأولى التي يدور فيها الجدل والتهديد بإنهاء هيمنة العملة الأميركية؛ لكن الأمر صعب على التخيُّل في الوقت الحالي، وهو ما يبرر شراء الدول لاحتياطي الذهب بكميات كبيرة لمواجهة الصدمات في الأزمات الاقتصادية العالمية، ومكافحة التضخُّم في ذات الوقت".
وبالتالي لا يعتقد الكاتب المتخصص في شؤون الطاقة أن تتخلى الدول عن الدولار وتبادل النفط بالعملات المحليّة في الفترة المقبلة، أو حتى المستقبل القريب.