أصبحت العملات الرقمية محلّ خلاف جذري بين مجموعة العشرين، لا سيَّما وأنّ الهند التي ترأست الدورة الأخيرة من قمّة المجموعة، تطالب بالسماح لها بالموافقة على استخدام العملات الرقمية ضمن نظامها المالي، بينما تعترض دول أخرى على هذه الخطوة؛ التي تعتبرها تهديداً للاقتصاد العالمي.
وفي فبراير 2022؛ أعلنت الهند عزمها إطلاق عملة رقمية من عملتها الرسمية، الروبية، وفي وقت سابق حدَّدت نيرمالا سيترامان، وزيرة المالية الهندية، خططاً لفرض ضريبة بنسبة 30 بالمئة على الدخل من الأصول المشفرة، ما يجعل أرباح التداول أو تحويل العملات في أعلى نطاق ضريبي بمومباي.
وعلى هامش اجتماع مجموعة العشرين؛ قالت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغيفا، بعد المشاركة في رئاسة اجتماع مع وزيرة المالية الهندية، إن "حظر العملات المشفرة يجب أن يكون خياراً".
وقالت إنّه "يتعين علينا التفريق بين العملات الرقمية للبنك المركزي المدعومة من الدولة والعملات المعدنية المستقرة، والأصول المشفرة التي يتم إصدارها بشكل خاص".
لكنّ غورغيفا تشدد على "ضرورة الضغط القوي لتنظيم هذا السوق، لأنّ فشله يعني استمرار حظر تداول تلك العملات؛ لأنّها قد تخلق أخطاراً على الاستقرار المالي العالمي".
يشار إلى أن عالم التشفير المتقلب أصابه تخبط شديد بالفعل من جديد جراء انهيار إحدى كبرى منصاتها (FTX)، مما سلط الضوء على أخطار الأصول المشفرة التي تفتقر إلى الحماية الأساسية.
9 أُطر أساسية
صندوق النقد الدولي أصدر من جانبه في 23 فبراير الجاري ورقة عمل بشأن الأصول المشفرة، وحثَّ البلدان على إلغاء حالة المناقصة القانونية للعملات المشفرة، كما حددت الورقة، التي تحمل عنوان "عناصر السياسات الفعالة للأصول المشفرة"، إطاراً من تسعة مبادئ للسياسة تتناول قضايا التنسيق المالية والقانونية والتنظيمية والدولية.
وقال صندوق النقد الدولي: "لا تشكل الأصول المُشَفَّرة، بما فيها العملات الرقمية المستقرة، أي مخاطر على النظام المالي العالمي بعد، ولكن هناك بعض اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية التي تواجه آثاراً ملموسة بالفعل.
فتوجد في بعض هذه البلدان حيازات كبيرة من الأصول المُشَفَّرة في قطاع التجزئة، فضلاً عن استبدال العملة من خلال الأصول المُشَفَّرة، وفي مقدمتها العملات الرقمية المستقرة المقومة بالدولار. ويشهد بعضها تحولا إلى العملات المُشَفَّرة، عند إحلال هذه الأصول محلّ العملة والأصول المحلية، والالتفاف على قيود الصرف وضوابط رأس المال".
ويرى الصندوق أنَّ الحكومات حول العالم تحتاج إلى معالجة الأسباب الجذرية للتشفير، من خلال تحسين الثقة في سياساتها الاقتصادية المحلية والعملات والأنظمة المصرفية.
ووفقًا للورقة التي نُشرت على موقع صندوق النقد الدولي، جاءت الأطر التسعة كالآتي:
- حماية السيادة النقدية والاستقرار النقدي عبر تعزيز أطر السياسة النقدية وعدم منح الأصول المشفرة عملة رسمية أو وضع مناقصة قانونية
- الحماية من التقلبات المرتفعة بتدفق رأس المال والحفاظ على فعالية تدابير إدارته
- تحليل المخاطر المالية والكشف عنها واعتماد معالجة ضريبية لا لبس فيها للعملات الرقمية
- إيجاد صيغة قانونية واضحة لأصول التشفير ومعالجتها
- تطوير وإنفاذ الإجراءات الاحترازية، والسلوك، والإشراف على جميع الجهات الفاعلة بسوق التشفير
- إنشاء إطار مراقبة مشترك عبر الوكالات والسلطات المحلية المختلفة
- وضع ترتيبات تعاونية دولية لتعزيز الإشراف وإنفاذ لوائح الأصول المشفرة
- مراقبة تأثير الأصول المشفرة على استقرار النظام النقدي الدولي
- تعزيز التعاون العالمي لتطوير البنى التحتية الرقمية والحلول البديلة للمدفوعات والتمويل عبر الحدود
ليس تنظيماً
ويشدد موريس أوبتسفيلد، كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي سابقًا، في تصريحات خاصّة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" على ضرورة وجود تقارب دولي قوي واتصالات لتنظيم تداول العملات الرقمية؛ لأنّ المنصّات الرقمية أصبحت عالمية ولا يمكن تجاهلها أكثر من ذلك.
لكنّه في الوقت ذاته؛ يؤكد أنَّ الفكرة التي طرحتها رئيسة صندوق النقد الدولي، غورغيفا، بشأن منح الخيار للدول لتداول العملات الرقمية من عدمه لا تعني تنظيماً من أي نوع، وهذا هو الوضع الراهن، إذ تستطيع الدول إصدار عملاتها الرقمية وتتداولها دون الحاجة إلى أيّة تراخيص من المؤسسات العالمية.
وفي وقتٍ سابق، قالت وزيرة المالية الهندية "إنّه ثمة اعتقاد بأنَّ أي شيء خارج البنك المركزي لا يعتبر عملة"، وهو ما يعلّق عليه أوبتسفيلد بالقول: "الكثير من الأشياء يمكن استخدامها على أنّه عملة أو أموال؛ لكنّ استقرار قيمتها يعتمد في النهاية على شكل من أشكال الدعم أو التنظيم الحكومي".
وقت للتفاهم
حول هذا الخلاف المحتدّم، تعلّق أنغيلا آنغ، كبير مستشاري السياسات في شركة TRM Labs، المتخصصة في مساعدة المؤسسات المالية والحكومات على مكافحة الاحتيال وغسيل الأموال، إذ تقول: "التوافق العالمي حول طبيعة العملات المُشفّرة وإدخالها في سوق النظام العالمي التقليدي ضروري، حتى يكون تنظيم العمل بها فعالاً".
وتشير في تصريحات خاصّة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أنّ الخلافات بين مجموعة العشرين جوهرية لكن يمكن حلّها، إذا تم وضع الأطر التنظيمية والأسس المنظمة لتداول العملات المشفّرة بين دول المجموعة.
وتوضّح أنّ "مجموعة العشرين بدأت المناقشات بشأن تنظيم التعامل مع العملات المشفّرة اعتماداً على تقرير صندوق النقد الدولي والـFSB، لكنّ الأمر يحتاج إلى وقتٍ للوصول إلى تفاهم مشترك".
أسباب الخلاف
من جانبه يرى المحلل الاقتصادي السعودي، سليمان العسّاف، أنّ العملات المُشفّرة موضع خلاف كبير بين دول مجموعة العشرين بشأن طرق تقنينها، والسيطرة عليها، مُرجعاً ذلك إلى عدّة أسباب:
- وجود ما يقرب من 4 آلاف عملة رقمية في العالم، العملات القويّة منها لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة
- أكثر هذه العملات تقوم على المضاربة
- لا يوجد قوانين واضحة يمكن الاعتماد عليها من قبل مجموعة العشرين
- مجلس الاستقرار العالمي أو ما يعرف FSB اقترح أن يكون هناك قواعد عالمية للعملات المشفّرة خاصّةً بعد الاضطرابات التي حدثت في الأسواق الرقمية كالبيتكوين الذي انخفض بنسبة أكثر من 70 بالمئة
- العملات الرقمية تؤثر على الاقتصاد العالمي، وعلى المحافظ الرقمية، وعلى القدرات المالية، وتزيد أيضاً من مشاكل الاقتصاد العالمي والسوق لديه ما يكفي من الاضطرابات في العملات الورقية
- السعي لتنظيم العملات الرقمية أمرٌ جيّد، إذ تختلف نظرة كل دولة حسب مصالحها وإحساسها بالمخاطرة ومدى الفائدة من هذه العملات
التجارة غير النظيفة
يشدّد الاقتصادي السعودي على أنّ "الأزمات التي يعانيها العالم من العملات الرقمية عديدة، وأحياناً تكون مجهولة المصدر، كالسرقة، وغسيل الأموال، والمخدّرات، والتجارة غير النظيفة، علاوة على استخدامها للتحايل على الحظر الذي يُفرض على بعض الدول".
ويستشهد العسّاف بمثالين على ذلك قائلاً: "من أكثر الدول التي تستخدمها كوريا الشمالية، وإيران للالتفاف على الحظر المفروض عليهما، والتلاعب في الأسواق العالمية".
ويستطرد: "كما هو معروف؛ فالعملات الرقمية خارج سيطرة البنوك المركزية؛ لذلك لابد من وجود عمليات تحكُّم في هذه العملات حتى استقرار مصدرها، ومعرفة من الذي سيقوم بالتداول عليها".
وتوقّع في ختام حديثه مع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أنّ المقترحات التي تقدّم بها صندوق النقد الدولي ستضبط الأسواق بعض الشيء، إذا ما التزمت بها الدول لكي يتم تداولها في الإطار القانوني، وليس استخدامها في الطرق غير المشروعة، موضّحاً أنّ "مقترحات المنظمة العالمية غير مُلزمة لأيّ من الدول".