تواجه عملات الأسواق الناشئة ضغوطاً مستمرة على وقع عددٍ من العوامل المتشابكة، في مواجهة قوة الدولار مع إجراءات الفيدرالي الأميركي برفع معدلات الفائدة، وذلك في وقت تعاني فيه عديد من تلك الأسواق من إشكاليات هيكلية واضحة.
وبينما تدفع قوة الدولار الأميركي الأسواق الناشئة للاستسلام لقوى السوق ومواجهة ضغوطات قوية على ربط العملة، لجأت بعض تلك الاقتصادات إلى تسريع وتيرة تخفيض قيمة العملة، بما وضعها تحت مقصلة ارتفاع معدلات التضخم.
تقرير نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية، سلط الضوء على عمليات خفض قيمة العملة الأخيرة في عدد من الاقتصادات الناشئة، في خطٍ متوازٍ مع قوة الدولار الأميركي، وبما يضغط على تلك الأسواق لإنفاق احتياطات أجنبية ثمينة لدعم أسعار الصرف.
أبرَزَ التقرير الوضع في كلٍ من مصر وباكستان ولبنان بشكل خاص، مع تخليهم عن سياسات طويلة الأمد لربط عملاتهم بالدولار الأميركي.
- كان خفض قيمة العملة المصرية بنسبة 23 بالمئة منذ الرابع من يناير الماضي هو الثالث منذ مارس من العام الماضي 2022.. وخسر الجنيه منذ ذلك الحين نحو نصف قيمته أمام الدولار
- خسرت الروبية الباكستانية نحو خُمس قيمتها بالدولار بعد أن خففت الحكومة هناك القيود في 26 يناير
- سمح البنك المركزي اللبناني لعملته بالانخفاض بنسبة 90 بالمئة مقابل الدولار في الأول من فبراير، بما يعني إنهاء الربط الساري منذ العام 1997
وقد اضطرت الدول الثلاث المذكورة لتخفيض عملتها في خطٍ متوازٍ مع مساعيها للحصول على تمويل طارئ من صندوق النقد الدولي، فيما يحذر محللون من أن 60 بالمئة من البلدان منخفضة الدخل معرضة لخطر ضائقة الديون.
ضغوط على ربط العملة
ونقل تقرير "الفاينانشال تايمز" عن محللين اقتصاديين تحذيراتهم من أن عدداً كبيراً من الأسواق الناشئة قد تضطر إلى الاستسلام لقوى السوق، في ضوء ما تتعرض له عملية ربط العملة من ضغوطات.
على الجانب الآخر، يعتقد المحلل المالي أنجيلو جوليانو، من الصين، بأن "قوة الدولار مؤقتة" وعليه قد تجد الأسواق الناشئة فرص أخرى في المستقبل القريب لفك الضغوطات التي تتعرض إليها بالاعتماد على سياسات مالية واقتصادية مختلفة.
ويقول في تصريحات لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن هيمنة الدولار مؤقتة، وتشير عديد من التحليلات إلى أن انهياره كعملة رئيسية قد يكون في غضون عقد، وبالتالي "قد يؤدي ذلك إلى تأثير إيجابي بالنسبة للاقتصادات الناشئة وديونها المقومة بالدولار مستقبلاً".
ويلفت إلى أحد الأدوات التي يتم الاعتماد عليها لتخفيف الضغوطات على تلك الاقتصادات، من بينها الاعتماد على العملات المحلية في التبادلات التجارية، مردفاً في الوقت نفسه: "تعمل دول البريكس على سلة عملات جديدة مدعومة بالسلع".
ومن بين البلدان المرشحة لمواجهة ضغوط على ربط العملة، حدد التقرير المشار إليه بشكل خاص كلاً من (أوكرانيا ونيجيريا والأرجنتين).
ونقل عن كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي، روبن بروكس، قوله إن الاقتصادات الثلاث "من بين الاقتصادات التي من المرجح أن تتعرض ربط عملتها للضغط؛ خاصة إذا أدى تصعيد الحرب الروسية في أوكرانيا إلى إعادة إشعال الضغوط التضخمية، وبما يقود إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض في العالم المتقدم ومكاسب أخرى للدولار".
- في يوليو 2022 خفض البنك الوطني الأوكراني، سعر الصرف الرسمي للعملة الأوكرانية "هريفنا" مقابل الدولار بنسبة 25 بالمئة.. وسجلت العملة الأوكرانية خلال العام 2022 انخفاضاً نسبته 27 بالمئة.
- البيزو الأرجنتيني سجل أكبر تراجع للعملات في العام 2022، بانخفاض بلغت نسبته أكثر من 40 بالمئة (طبقاً لتحليل الخبير الاقتصادي ألكسندر نازاروف، عبر قناته على تليغرام)، في وقت توشك فيه معدلات التضخم بالبلاد على ملامسة نسبة الـ 100 بالمئة
- انخفضت النيرة النيجيرية بأكثر من 6 بالمئة خلال العام 2022، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية بالبلاد، وندرة التدفقات الدولارية بسبب استنفاد الاحتياطيات الأجنبية، مقابل ارتفاع الطلب.
الدولار القوي وعملات الأسواق الناشئة
عضو المجلس الاستشاري لمعهد الأوراق المالية والاستثمار البريطاني بدبي، وضاح الطه، يقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن "الدولار القوي دائماً ما يؤثر سلباً على البلدان النامية غير المرتبطة عملاتها بالدولار، وبما يخلق معدلات تضخم مرتفعة"، مسلطاً الضوء على سبيل المثال بما تشهده فنزويلا والأرجنتين وتركيا.
ويشرح الطه ذلك بقوله: "عندما ترتفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة يرتفع مؤشر الدولار أمام العملات الأخرى، مع قلة العرض، وبالتالي تتأثر بشكل أكبر عملات الدول غير المرتبطة وبشكل مزودج أحياناً ما بين خدمة الدين وهجرة الاستثمارات".
ويفسر ذلك التأثر المزدوج: "أولاً إذا كانت الدولة تعاني من الديون الخارجية، فإن هذه الديون سترهق كاهلها، لجهة أن خدمة الدين ستكون أكبر أمام العملة المحلية، ومن ثم إرهاق المالية العامة لتلك الدولة.. بينما يتمثل العامل الثاني في هجرة الأموال من القطاع الخاص إلى أسواق أخرى تتمتع بمعدلات فائدة مرتفعة نسبياً وذات مخاطر شبه منعدمة".
ويلفت الطه إلى أن مسألة التحكم في العملة أحياناً ما تكون في حدود معينة، فإذا كان لدى الدولة صادرات فإنها مع انخفاض العملة قد تعمل على تعويض هذه الخسائر من خلال زيادة الصادرات مع زيادة الطلب لضعف عملتها أمام العملات الأخرى، كما يتم اللجوء إلى رفع معدلات الفائدة كما حدث في مصر على سبيل المثال، لتشجيع الناس على الادخار وبالتالي محاولة السيطرة على التضخم الناتج من انخفاض سعر العملة.
مشكلات هيكلية بالأساس
المستشار والخبير الاقتصادي كمال أمين الوصال، يشير في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن أحد الأسباب الرئيسية لـ" الدولار القوى " هو قيام الفيدرالي الأميركى برفع أسعار الفائدة بوتيرة لم تحدث منذ ثمانينات القرن الماضي في محاولة للسعي إلى السيطرة على التضخم، مردفاً: "ولاشك أن هذا الدولار القوى يعني فى الوقت ذاته ضعفاً لعملات كثير من الاقتصادات الناشئة؛ نتيجة لخروج الأموال الساخنة وغير الساخنة منها، حيث يبدو الدولار بديلاً أكثر تفضيلاً لها".
ويردف: "إلا أنه وعكس ما تروج له حكومات بعض هذه الدول فإن ضعف عملاتها يرجع لأسباب هيكلية بالداخل؛ مثل اختلال الهيكل الاقتصادى وزيادة الاعتماد على الخارج فى استيراد الكثير من السلع الأساسية و مستلزمات الإنتاج وارتفاع مستويات الديون الخارجية"، موضحاً أن ما فعله رفع أسعار الفائدة الأميركية و زيادة قوة الدولار مقابل هذه العملات بمثابة كشف الغطاء عن ضعف هذه العملات.
ويعتقد الوصال بأن التعامل مع هذه الأوضاع يتطلب مزيجاً متناسقاً يتسم بالحكمة من السياسات النقدية وإدارة سعر الصرف الأجنبي و السياسات المالية، وليس ردود فعل آلية مثل التي توصى بها الكتب الأكاديمية وبعض المؤسسات المالية الدولية.
فعلى سبيل المثال يتعين إدارة التحركات في سعر الصرف وعدم ترك قيمة عملاتها نهباً لعواصف العرض والطلب فقط والتعامل مع أسباب التضخم الأساسية والتي ترجع في معظمها لجانب العرض وارتفاع نفقات الإنتاج.
ومن ثم فإن السياسات النقدية المتشددة التقييدية ينبغى أن تتم على نحو رشيد. وعلى جانب السياسات المالية فيتعين العمل في أكثر من مجال منها تخفيض العبء الضريبي على مؤسسات الأعمال والقطاع الخاص؛ لتعويض الاثر الانكماشي لرفع أسعار الفائدة. وعلى جانب آخر يتعين أن يتم تصميم حزم دعم مختلفة للفئات الأكثر انكشافاً والأقل دخلاً لمواجهة الآثار التضخمية التي تؤثر بدرجة أكبر على هذه الفئات، خاصة في ظل ارتفاع نسب الفقر في هذه الدول، وفق الوصال.
ويرى المستشار والخبير الاقتصادي بأنه "على المديين الطويل والمتوسط يتعين على هذه الدول العمل على تصحيح الاختلالات الهيكلية في اقتصاداتها وتنويع وتقوية قواعدها الإنتاجية".
معضلة أساسية
واحدة من المعضلات الأساسية التي أشار إليها تقرير الفاينانشال تايمز، مرتبطة بأنه فيما يؤدي ربط العملات (وأسعار الصرف المُدارة) إلى استنفاد الاحتياطات الشحيحة في كثير من تلك الاقتصادات، فضلاً عن إعاة النمو الاقتصادي، ففي الوقت نفسه فإن تخفيض قيمة العملة يؤدي لإذكاء معدلات التضخم، من خلال ارتفاع كلفة الواردات وتكلفة خدمة الدين بالعملات الأجنبية.
الباحثة في الاقتصاد الدولي، الدكتورة سمر عادل، تقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن قوة الدولار تفرض ضغوطاً واسعة على عملات الأسواق الناشئة، وفي خطٍ متوازٍ مع الأوضاع الراهنة وبينما العالم يعاني من تبعات الحرب في أوكرانيا، لا سيما وأن تلك الاقتصادات تعتمد غالبيتها بشكل كبير على الاستيراد من الخارج (بما يعزز فجوة دولارية ملحوظة) وهو ما دفع إلى موجات تخفيض قيمة العملة في مصر ولبنان على سبيل المثال.
وتشير المحاضِرة الاقتصاد بأكاديمية الأهرام الدولية، إلى أن الأسواق الناشئة عموماً -أمام تلك الضغوطات- تستلم أمام ضغط السوق، وبالتالي موجات جديدة من التخفيض في ضوء تعرض الاقتصاد العالمي لهزات عنيفة تحت وطأة الحرب، مشددة على أنه بينما على المدى المنظور لا تبدو أفق لانتهاء الحرب في أوكرانيا، إلا أنه من المتوقع مع حسم الحرب أن تنخفض وتيرة الضغوطات على الأسواق الناشئة ومن ثم تقليل الخسائر نسبياً.
وتشدد الباحثة في الاقتصاد الدولي على أن لجوء الاقتصادات الناشئة للتمسك بربط العملة أو التخلي عن تلك السياسات بالتعويم، يسفر في كل من السيناريوهين عن آثار سلبية على الاقتصاد، تنعكس على معدلات التضخم وعلى الاحتياطي النقدي، وقد لجأت بعض الدول مثل مصر إلى اعتماد فلسفة "التعويم المُدار" بعدما كان تخفيض العملة أمراً حتمياً وضرورياً.
وتقول إن الخروج من هذا المأزق يتعين منه اتباع سياسات مالية خاصة يُعاد فيها النظر في إجمالي النفقات العامة في الموازنات، من أجل تقليص وتيرة الخسائر الناجمة عن تخفيض قيمة العملة.
يتسق ذلك مع ما نقله تقرير الفاينانشال تايمز المذكور، عن كبير الاقتصاديين في شركة Gemcorp Capital Management ، سايمون كويجانو إيفانز، والذي قال: "مثل نيجيريا وغانا، يجب على الدول النامية الأخرى في إفريقيا وخارجها أن تفصل بشكل واضح بين السياسة المالية والسياسة النقدية.. بدلاً من الاعتماد على البنوك المركزية لدعم عملاتها أو شراء ديونها، يتعين على الحكومات موازنة دفاترها من خلال الإصلاحات المالية بما في ذلك الضرائب".