مع توجه معظم البنوك المركزية في العالم، وفي مقدمتها المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، والبنك المركزي الأوروبي، وبنك إنجلترا لرفع أسعار الفائدة منذ عام تقريباً بهدف كبح التضخم الذي وصل إلى مستويات قياسية لم يشهدها العالم منذ أربعة عقود، تلجأ دول مثل تركيا لخفض سعر الفائدة لتحقيق الهدف ذاته، الأمر الذي يدفع للتساؤل فيما إذا كان رفع الفائدة هو الطريقة الوحيدة الناجعة لكبح التضخم؟
ويرى خبراء اقتصاد أن رفع سعر الفائدة يعد الوسيلة الوحيدة تاريخياً التي تأتي بنتيجة لكبح التضخم لدى صناع السياسة النقدية، لكنهم يشيرون إلى أنها بالتأكيد ليست الطريقة الوحيدة، إذا هناك أيضاً السياسة المالية التي تلعب دوراً مهماً في مواجهة التضخم، ويوضح الخبراء أن تخفيض الفائدة لتحقيق لمحاربة التضخم كما في التجربة التركية يعد سياسة نقدية خاطئة على المدى الطويل وإن انخفضت معدلات التضخم لبضعة أشهر.
سياسة نقدية متشددة في كبرى البنوك المركزية
وتتبع كبرى البنوك المركزية سياسة نقدية متشددة، حيث رفع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي معدلات الفائدة 8 مرات منذ العام الماضي، ليتراوح المعدل ما بين 4.5 و4.75 بالمئة، كما رفع البنك المركزي الأوروبي الفائدة 5 مرات لتصل إلى 3 بالمئة، وبنك إنجلترا 10 مرات على التوالي لتصل إلى 4 بالمئة.
المركزي التركي يسبح عكس التيار
في حين ينتهج البنك المركزي التركي سياسة خفض معدلات الفائدة في ظلّ ارتفاع الأسعار، بعكس البنوك المركزية في العالم، تحت ضغط من الرئيس رجب طيب أردوغان، حيث خفض البنك المركزي التركي سعر الفائدة إلى تسعة في المئة من 19 بالمئة منذ عام 2021.
تباطؤ معدلات التضخم
سجل معدل التضخم في الولايات المتحدة الأميركية لشهر ديسمبر الماضي تباطؤاً من 7.1 بالمئة إلى 6.5 بالمئة على أساس سنوي، وتعهد رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، جيروم باول، بمزيد من الزيادات في أسعار الفائدة خلال الفترة المقبلة من أجل خفض التضخم إلى المستوى المستهدف عند 2 بالمئة.
كما تراجع التضخم بمنطقة اليورو في يناير الماضي وللشهر الثالث على التوالي، بفضل استقرار أسعار الطاقة، ليسجل معدّل التضخم السنوي 8.5 بالمئة مقابل 9.2 بالمئة ديسمبر الماضي، وكذلك تباطئ معدل التضخم في بريطانيا في ديسمبر الماضي وللشهر الثاني على التوالي مسجلاً 10.5 بالمئة.
واللافت أيضاً أن التضخم السنوي في تركيا انخفض في يناير الماضي للشهر الثالث على التوالي إلى 57.68 بالمئة، بعد أن بلغ في أكتوبر 2022 أعلى مستوياته في 24 عاماً عند 85.51 بالمئة، بحسب معهد الإحصاء التركي.
طريقة محاربة التضخم المعتمدة تاريخياً
في حديثه لموقع اقتصاد سكاي نيوز عربية يقول الخبير الاقتصادي علي حمودي: "إن رفع سعر الفائدة هو أهم طريقة لكبح جماح التضخم، وربما يكون رفع الفائدة الوسيلة الوحيدة تاريخياً التي تأتي بنتيجة لكبح التضخم لدى صناع السياسة النقدية، لكن بالتأكيد هذه الطريقة ليست الوحيدة، إذ هناك أيضاً السياسة المالية التي يمكن أن يكون لها دور في محاربة التضخم، وخصوصاً إذا كان مصدره ضرائب مرتفعة مثلاً على بعض السلع فيقوم صناع السياسة المالية بخفض الضرائب عليها، وفي حال احتاجت هذه السلع الدعم فقد يتم دعمها وهذا يخفف من معدل التضخم، أما بالنسبة لتركيا فإن تخفيض سعر الفائدة لن يحارب التضخم".
ويشرح حمودي أن "ما نشاهده من انخفاض مستويات التضخم في تركيا خلال الأشهر الأخيرة يعد أمراً طبيعياً وهو ما يحدث حالياً في معظم دول العالم، نتيجة تحسن سلاسل التوريد بعد جائحة كورونا فضلاً عن أن ارتدادات الحرب الروسية الأوكرانية لم تكن بهذه الصورة السيئة التي توقعها الكثيرون وخصوصاً لجهة ارتفاع أسعار النفط إلى أكثر من 150 دولاراً للبرميل ووصول أسعار الغاز إلى أرقام فلكية وإغلاق المصانع في الدول الأوروبية مثل ألمانيا، وهذا لم يحدث بل إن أسعار النفط حافظت على مستوياتها إن لم نقل انخفضت وكذلك أسعار الغاز في أوروبا وصلت على أدنى مستوى لها منذ جائحة كورونا".
خفض الفائدة لمحاربة التضخم سياسة خاطئة على المدى الطويل
من جهته، يقول أشرف العايدي الرئيس تنفيذي لشركة Intermarket Strategy" في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "الوسيلة العامة الأساسية لمحاربة التضخم هي رفع الفائدة، أما بعض الدول الناشئة التي لديها في الأصل مشاكل في التضخم وسعر الفائدة يصل إلى أكثر من 15 بالمئة، تلجأ إلى خفض سعر الفائدة بهدف تخفيف العبء على الاقتصاد، فتنخفض معها قيمة العملة ما يؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم مجدداً على المدى المتوسط إلى الطويل".
ويضيف العايدي: "وفي الحالة التركية فإن السبب الذي يؤدي إلى استقرار التضخم مع تخفيض سعر الفائدة يعود إلى عدم ارتفاع الرواتب والأجور، لأن التضخم ببساطة هو ارتفاع نسبة نمو الأسعار وهو ما يأتي مع ارتفاع الأسعار ويكون الدافع الرئيسي له ارتفاع الأجور، وأعتقد أن تمكن تركيا من التحكم بالتضخم يعود على عدم رفع الأجور، لكن هذا السياسة النقدية لمحاربة التضخم على المدى الطويل خاطئة".
صدمات سلاسل التوريد
وهناك من يرى أن رفع أسعار الفائدة هو الحل الخاطئ لمشكلة التضخم، وتفسير ذلك هو أن الأسعار المرتفعة كانت مدفوعة بشكل أساسي بصدمات سلاسل التوريد، وبالتالي فإن السياسة النقدية لا يمكنها فعل أي شيء حيال صدمات العرض، حيث لم يتمكن الموردون العالميون من إنتاج السلع وتسلميها بكفاءة للمستهلكين، كما أن العقوبات المفروضة على روسيا أدت الى تقليص الإمدادات وخاصة بالنسبة للسلع الأساسية، ثم بعد ذلك كله يأتي بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ويرفع أسعار الفائدة، طبقاً للخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله الشناوي.
ويضيف الدكتور الشناوي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "مع ظهور صدمات العرض من وقت لآخر سيكون من الصعب على البنوك المركزية الحفاظ على سيطرتها على التضخم، وبالتالي فإن صدمات العرض والطلب هي المسؤولة عن التضخم، ولذلك يجب القيام بإجراءات في كلا الجانبين، كما أن رفع أسعار الفائدة يجعل تكلفة توسع الشركات مرتفعة ما قد يؤدي إلى تخفيض حجم الاستثمارات الإضافية الأمر الذي يضر في النهاية بمستوى التوظيف".
تحفيز النمو الاقتصادي
على الجانب الآخر رغم أن العديد من البنوك المركزية في المنطقة رفعت أسعار الفائدة فإننا نجد دولاً مثل تركيا تلجأ إلى خفض أسعار الفائدة بهدف خفض التضخم، بتوجيه من الرئيس التركي الذي يتبنى اعتقاداً غير تقليدي مؤداه أن أسعار الفائدة المنخفضة تؤدي الى انخفاض التضخم، وأن خفض الأسعار يمكّن الصادرات من تحفيز النمو الاقتصادي المحلي للاقتصاد التركي، بدلاً من استخدام تكاليف الاقتراض المرتفعة لتقييد الاستهلاك والأسعار، بحسب الخبير الاقتصادي الشناوي الذي أشار إلى أن الرئيس التركي يفضل خفض الأسعار كجزء من استراتيجية غير تقليدية لتشجيع النمو الاقتصادي من خلال التعويل على انخفاض تكاليف الاقتراض لدفع الاقتصاد انطلاقاً من رؤيته بأن تكاليف الاقتراض المرتفعة تسبب تضخماً مرتفعاً، وقد ترتب على ذلك انخفاض الليرة التركية أكثر من النصف ودفعت ملايين الأتراك إلى الاقتراب من الفقر".
ولكن ما هي فلسفة الاحتياطي الفيدرالي الأميركي من رفع سعر الفائدة؟
يجيب الدكتور الشناوي على هذا التساؤل قائلاً: "يستهدف بنك الاحتياطي الفيدرالي إبطاء الاقتصاد عن طريق إحداث زيادات في أسعار الفائدة كأداة رئيسية وحيدة في الأجل القصير لخفض التضخم، وهو ما يتم الآن من خلال رفع تكلفة اقتراض الأموال لكبح الطلب على السلع والخدمات، ويأمل الفيدرالي الأميركي إلى أن يؤدي رفع أسعار الفائدة الى تهدئة الطلب على السلع الاستهلاكية والخدمات من خلال جعل الاقتراض للأموال أكثر تكلفة، وتكمن فلسفة هذا الإجراء في أنه إذا أصبحت السلع والخدمات مرتفعة الثمن سيقل عدد الأفراد الراغبين في شرائها ما قد يدفع البائعين إلى خفض أسعارها حتى يتم الاحتفاظ بالعملاء".