تعتزم كل من البرازيل والأرجنتين مناقشة تبني عملية موحدة، لتقليص الاعتماد على الدولار الأميركي في تعاملاتهما المالية، في خطوة تأتي ضمن سلسلة متصلة من الخطوات ذات الصلة التي يسعى خلالها عدد من الأطراف – سواء حلفاء أو خصوم لواشنطن- إلى التخلي عن الدولار، وبما يُهدد بضرب هيمنة العملة الأميركية على المدى الطويل.. فأي مستقبل ينتظر "الأخضر الأميركي"؟
في وقت يشهد فيه العالم عصراً جديداً من التنافس بين القوى العظمى يُعاد معه تشكيل خارطة الاقتصاد العالمي، يتزايد بشكل تدريجي الاتجاه نحو إزالة الدولرة، وإن كان ذلك الاتجاه ليس بظاهرة جديدة في حد ذاتها مرتبطة بجملة التطورات الراهنة.
منذ أن حل الدولار محل الإسترليني بصدارة عملات الاحتياطي العالمي (بموجب اتفاق بريتون وودز بنهاية الحرب العالمية الثانية)، بزغت عديد من المحاولات المرتبطة بكسر هيمنة العملة الأميركية في فترات مختلفة، فقد سعت على سبيل المثال دول أميركا اللاتينية للابتعاد عن الدولار في الثمانينات التسعينات.
فنزويلا على سبيل المثال رداً على العقوبات الأميركية، وكذلك شيلي. كما عززت الأزمة المالية العالمية 2007-2008 كذلك تياراً مماثلاً حول العالم للتخلي عن الدولار.
وفيما لم تظهر آثار مؤثرة لتلك المحاولات بشكل عملي، إلا أن تتابع الخطوات المرتبطة بالتخلي عن الدولار في الفترات الأخيرة في ظل المتغيرات الجيوسياسية واسعة النطاق، يضع هيمنة الدولار أمام تحدٍ مصيري، وفي خطٍ متوازٍ مع صعود الصين كقوة اقتصادية، والعقوبات المفروضة على روسيا أخيراً وتبعاتها المختلفة، وغيرها من العوامل ذات الصلة.
ولقد عززت مجموعة المتغيرات المذكورة اتجاه عديد من الدول إلى التعامل بالعملات الوطنية، على غرار انخراط روسيا والصين بالفعل في تجارة الروبل اليوان وتسوية التعاملات بينهما بالعملات المحلية وكذلك مع عدد من شركائهما التجاريين حول العالم.
كما تستمر بلدان أخرى في البحث عن طرق لبناء روابط تجارية تتجنب الدولار، وآخرها ما تم الإعلان عنه في أميركا اللاتينية، فيما البرازيل والأرجنتين، وكذلك إعلان البنك المركزي الروسي أخيراً البدء في تحديد أسعار الروبل مقابل مجموعة من العملات الأجنبية من بينها الجنيه المصري، كعملات تبادل تجاري، وعديد من الخطوات الأخرى ذات الصلة.
احتمال ضعيف على المدى القصير
المجلس الأطلسي في واشنطن، تحدث ضمن تقرير صادر مطلع العام الجاري ومعنون بـ "أهم 23 خطراً وفرصة للعام 2023"، عن احتمال مرتبط بابتعاد عدد من البلدان – وليس خصوم الولايات المتحدة الأميركية فقط - عن الدولار بأسرع مما كان متوقعاً.
طبقاً للتقرير، فإن القلق بشأن مستقبل الدولار الأميركي هو جدل تقليدي عادة ما يثار، لكنه أشار إلى وجود احتمالية -وإن كانت بشكل ضعيف على المدى القصير- لابتعاد مجموعة من الدول من حلفاء وخصوم واشنطن عن الدولار.
حتى الآن وبشكل عملي "لا تزال مزايا الدولار متجذرة بعمق في النظام المالي العالمي"، طبقاً لجوش ليبسكي، وهو مدير مركز "جيو إكونوميكس" التابع للمجلس الأطلسي، والذي عمل كمستشار سابق لدى صندوق النقد الدولي.
وبينما يعتقد ليبسكي بأنه "لا يوجد ما يدعو للقلق" فإنه يشير إلى أن عديداً من البلدان ترغب في الابتعاد عن الدولار حتى لو لم يكن ذلك سهلاً، فيما لا يوجد بديل واضح على المدى القريب.
ويتابع: يحدث هذا التحول بالفعل بشكل تدريجي.. حصة الدولار من احتياطيات النقد الأجنبي آخذة في الانخفاض.. كما أن الدول في جميع أنحاء العالم، وليس فقط المنافسون للولايات المتحدة مثل الصين ولكن أيضاً دولاً مثل الهند وإندونيسيا وماليزيا وجنوب إفريقيا، تستثمر في تقنيات مثل العملات الرقمية للبنك المركزي، يمكن أن تجعلهم أقل اعتماداً على الدولار.
ولقد أدى نظام العقوبات العالمي غير المسبوق الذي فُرض بسرعة على روسيا في أعقاب "العملية العسكرية" التي قامت بها في أوكرانيا في فبراير إلى زيادة احتمالية الابتعاد السريع عن الدولار، وربما إلى احتمال يصل إلى حوالي 15بالمئة، طبقاً للمصدر نفسه.
ويشير ليبسكي، إلى أنه إذا تمكنت البلدان من إيجاد طرق للالتفاف على الدولار، فسيتم تقويض تأثير العقوبات بمرور الوقت. وفي المرة القادمة التي ينتهك فيها الخصم حدود دولة أخرى قد لا تكون الضربة الاقتصادية الأميركية المضادة مؤلمة تماماً.
هيكل بديل للدولار الأميركي
من جانبه، يقول الرئيس التنفيذي بمركز كروم للدراسات في لندن، الدكتور طارق الرفاعي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": تاريخياً جميع العملات الأساسية لم تظل عملات أساسية إلى الأبد، فالدولار الأميركي نفسه أصبح عملة احتياطي عالمي بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن حل محل الجنيه الإسترليني.
ويشير إلى أن هناك كثيراً من الدول (لا سيما روسيا والصين) ودول أخرى مختلفة ترى أن هناك خطراً على اقتصاداتهم بسبب اعتماد الاقتصاد العالمي على الدولار، وبشكل خاص في ضوء التطورات الجيوسياسية التي يشهدها العالم حالياً، وبالتالي فإن ثمة اتجاهاً للاعتماد على عملات مختلفة.
ويتابع الرفاعي: "ومع هذا فإن الكثيرين ربما يتوقعون أن السنوات القليلة المقبلة سوف تشهد انهياراً للدولار، وهذا غير صحيح، لأن التغيير من عملة إلى عملة ثانية أو سلة عملات لا يحدث في يوم وليلة، بينما الأمر يستغرق سنوات عديدة لثبات استقرار العملة البديلة أو الهيكل البديل للدولار".
ويشير إلى "عملة البريكس" على سبيل المثال، وغيرها من محاولات الخروج من هيمنة الدولار، من بينها اعتماد اليوان الصيني، لكن اليوان عموماً مرتبط بالدولار ولا يعتبر عملة مستقلة، وكذلك العملات في دول الخليج مرتبطة بالدولار.
ويردف الرئيس التنفيذي بمركز كروم للدراسات في لندن: "في المستقبل القريب سنرى توسعاً في التبادل التجاري بين عملات أخرى بعيداً عن الدولار.. لكن هذا لا يعني نهاية الدولار على المدى القريب.. على مدى خمس سنوات أو أكثر أتوقع أن نشهد كياناً جديداً للتبادل التجاري بالعالم".
روسيا تقود جهود كسر الدولار
من جانبه، يرى خبير الشؤون الروسية، رئيس المركز الروسي العربي، مسلم شعيتو، أن عناصر الهيمنة الأميركية على العالم تتمثل في القواعد العسكرية والدولار، وعندما تفقد واشنطن أية واحدة منهما تفقد الثانية تماماً، ومن ثمّ فإن روسيا من جانبها لا ترغب في مواجهة الولايات المتحدة عسكرياً على مستوى العالم، إنما تسعى لإقناع البشرية بعالم متعدد الأقطاب.
ويتابع شعيتو في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، مُتحدثاً عن الدور الروسي الأساسي ضمن مساعي كسر هيمنة الدولار، قائلاً: الرؤية التي تقدمها القيادة الروسية للولايات المتحدة والناتو تنادي بانتهاء أحادية القطب، وهذا الإنهاء ليس إنهاءً سياسياً وأمنياً فقط إنما انتهاءً اقتصادياً ومالياً، وإنهاء التحكم في مصير الاقتصاد والعملات الأخرى والتحويلات المالية، إذ تعتبر روسيا أن الدولار هو أساس الإمكانات الضخمة التي تتمتع بها واشنطن وأساس الهيمنة، عبر تلك العملة الورقية غير المدعومة.
ويستطرد: "بالتالي تسعى روسيا لتغيرات سياسية انطلاقا من ذلك، من خلال العمل على تشجيع التبادل بالعملات الوطنية أو التبادل بالسلع (..) تسعى روسيا جاهدة لتشكيل عالم متعدد الأقطاب، انطلاقاً من المنظمات الدولية والإقليمية مثل شنغهاي وبريكس وغيرهما، وجميعها منظمات قادرة وفاعلة ولها إمكانات واسعة اقتصادياً وبشرياً على صعيد العالم، تنسجم مع روسيا في تطلعها للتخلص من هذه الهيمنة الأميركية، لكنها تتجاوب بشكل مختلف انطلاقا من قدراتها ومدى ارتباطها بالهيمنة الأميركية".
تحديات هائلة
في المقابل، يقلل الباحث بمؤسسة أميركا الجديدة، باراك بارفي، من أثر الاتجاه نحو التعامل بالعملات المحلية بين بعض الدول على مكانة الدولار وهيمنته على مستوى العالم.
ويشير في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن "التداول بالعملات المحلية يمثل تحدياً لأن هذه العملات تحتاج إلى تحويلها إلى عملات صعبة لشراء سلع من دول أخرى.. لذلك إذا قامت الصين بتسوية فواتير النفط الخاصة بها بالروبل فلن تتمكن من استخدام تلك الروبلات مع ماليزيا على سبيل المثال لشراء دوائر إلكترونية متكاملة.. يجب أن تستبدل الروبل بالدولار ثم تستخدمه في التجارة مع ماليزيا".
ويرى بارفي أن التجارة الثنائية بالعملات المحلية لا تشكل مخاطر كبيرة على الأطراف لأنهم يستطيعون إعادة التفاوض إذا لزم الأمر حول الآليات المتبعة وتحديد القيمة.. فيما يعد استخدام عملة بلد ثالث أكثر صعوبة لأن الطرفين لا يستطيعان التحكم في تقلباتها وعليهما إعادة التفاوض بناءً على عوامل لم يخلقاها.. لكن ذلك يظل مقتصرا على التعاملات الثنائية".