ألقت الأزمة الأوكرانية بظلالها على حرب تكسير العظام الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، في خضم سعي كل منهما للاستحواذ على الأسواق العالمية وجني المكاسب.
وضاعفت الحرب من التحديات الاستراتيجية للصراع بين بكين وواشنطن، خاصة في ظل ما تشكله القوة الصينية من مخاوف للغرب، مع استمرار توسع مبادرة طريق الحرير، والتنامي المطرد للقدرات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية.
وفي محاولة لإحداث تأثير ملحوظ، أعلنت الإدارة الصينية في مايو 2020، استراتيجية جديدة تحت راية "التداول المزدوج"، تتمثل في العمل بشكل كامل على تنمية المزايا التي تتمتع بها السوق الضخمة في البلاد، فضلا عن إمكانيات الطلب المحلي لوضع نمط جديد للتنمية، يتميز بالتداول المزدوج المحلي والدولي الذي يُكمل كل منهما الآخر.
وفي تقرير لمركز الأبحاث الأوروبي "بروغل"، المتخصص في السياسات الاقتصادية، فإن مصطلح "التداول المزدوج" قد يبدو كأنه كلمة دون أهمية كبيرة، لكنه ليس كذلك، لأنه "يكرس طموح الصين طويل الأمد بأن تصبح مكتفية ذاتيا".
فمنذ دفع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، لشن حرب تجارية وتكنولوجية ضد بكين، اعتمدت القيادة الصينية على استراتيجية "تداول مزدوج" لدعم نمو الصين، ويعني ذلك بالأساس عزل السوق المحلية عن بقية العالم، من خلال القضاء على أي اختناقات، سواء من حيث الموارد الطبيعية أو التكنولوجيا، لدمج إنتاجها رأسيا وتحقيق الاعتماد على الذات الذي تخدمه السوق المحلية الصينية الضخمة.
وفي الوقت الذي يرى مراقبون أن التداول المزدوج يعتبر جزءا من المخطط الرئيسي للصين لتصبح معتمدة على نفسها من حيث الموارد والتكنولوجيا، وأيضا من حيث الطلب من خلال سوقها الضخمة وكذلك الأسواق المتاحة من خلال مبادرة الحزام والطريق، فإن ثمّة عواقب راهنة تحول دون إتمامها على نحو أمثل، في ظل المتغيرات العالمية والأزمة الاقتصادية الواسعة التي أفرزتها الحرب الأوكرانية.
متغيرات دولية
ورأى المحلل الاقتصادي البارز، الزميل غير المقيم في مركز الطاقة العالمي التابع للمجلس الأطلسي، بول سوليفان، في حديث لموقع "سكاي نيوز عربية"، أن "استراتيجية التجارة المزدوجة للصين غير قابلة للتنفيذ مع ما يشهده العالم".
وقال: "لا يمكن للصين عزل اقتصادها عما يحدث حاليا، لأن بكين تعتمد بشكل كبير على واردات الطاقة والغذاء والمواد الخام الأخرى، وغير ذلك الكثير، وهذا من الناحية الاقتصادية لا يمكن تنفيذه بشكل مزدوج".
وأضاف سوليفان أنه "يتعين على الصين أن تبحث عن أسواقها داخليا، لأنه ربما يكون النمو الذي يقوده التصدير قد تلاشى، ومن ثم عليها أن تجد النمو داخليا الآن، لكنها لا تزال بحاجة إلى الواردات للقيام بذلك".
عواصف اقتصادية
وعن التداعيات التي خلفتها الحرب الأوكرانية على مستقبل الصراع الواسع بين بكين وواشنطن، أشار المحلل الاقتصادي إلى أن "بعض الأسواق الناشئة تتعرض لضغوط هائلة، وسيظهر هذا الضغط في الصين والولايات المتحدة، وقد يتجه كلا البلدين إلى عواصف اقتصادية".
وتابع: "هذا ليس وقت الصراع، لقد ألحقت روسيا أضرارا جسيمة بالاقتصاد والاستقرار السياسي العالمي، وهذا يؤذي الصين أيضا، لأنها ستشتري النفط والغاز من روسيا كونها بحاجة إليهما، وأنا على يقين بأن القيادة الصينية يمكنها رؤية التهديدات القادمة في اتجاهها والتي اندلعت بسبب هذه الحرب غير الضرورية، التي يمكن أن تمتد إلى مناطق أخرى".
وهذا ما يشير إليه الباحث الاقتصادي، محمد شادي، في تصريحات لموقع "سكاي نيوز عربية"، بأن "الولايات المتحدة هي الشريك الاقتصادي الأول للصين، وبالتالي فإن بكين تعاني من ضغوط اقتصادية كبيرة للغاية قادمة من واشنطن، لكنها تمضي في استراتيجية لتخفيض العجز التجاري تشمل عدة مستويات".
وأوضح أن "المستوى الأول هو رفع المكون التكنولوجي في الصادرات الصينية، ونقل الصادرات الصينية إلى الخارج، والثاني هو خفض قيمة اليوان الصيني طويل الأمد حتى تصل صادراتها بأسعار تنافسية، والمحافظة على مستويات التشغيل".
وحسب شادي، فإن "الصين تعمل على تنويع سلاسل الإمداد الخاصة بصناعاتها، وكذلك مدخلات الإنتاج، حتى لا تعتمد على الولايات المتحدة، بالنظر إلى أن جزءا كبيرا من مدخلات الإنتاج يأتي من واشنطن، كما أن جزءا كبيرا للغاية من منتجاتها يذهب إلى هناك".
واستطرد موضحا: "بالتالي ترغب بكين في توسيع هذا الأمر، بالحصول على المواد الخام من دول أخرى والتوسع في أسواق جديدة، خاصة الاتحاد الأوروبي، الذي أقامت بكين معه عدة شراكات في أوقات سابقة".
وأفادت الإدارة العامة للجمارك الصينية مؤخرا، بأن التبادل التجاري مع الولايات المتحدة ارتفع خلال الفترة ما بين يناير وأبريل من العام الجاري بنسبة 10,9 في المائة، ليصل إلى 245,73 مليار دولار.
أزمة تايوان
وأصبحت تايوان ساحة للصدام بين واشنطن وبكين، خاصة مع تحذير الرئيس الأميركي، جو بايدن، من أن الصين "تلعب بالنار"، متعهدا بالتدخل عسكريا لحماية الجزيرة إذا تعرضت لهجوم.
وشبّه الرئيس الأميركي "أي غزو صيني لتايوان بغزو روسيا لأوكرانيا"، مما أثار انتقادات غاضبة من بكين، التي تعتبر تايوان مقاطعة صينية يجب إعادة توحيدها مع البر الرئيسي.
وفي هذا الصدد، يعتقد سوليفان أنه "من غير المحتمل أن تهاجم الصين تايوان، نظرا لأن تايوان جزء مهم جدا من سلاسل التوريد الشاملة لبكين، وأحد أهم مصادر وارداتها، خاصة أن الصين تعاني من ضغوط اقتصادية، وستجعل الحرب الأمور أسوأ بكثير بالنسبة إليهم".
وأضاف: "لقد فرضت حرب أوكرانيا ضغوطا كبيرة على الطاقة والغذاء والمعادن والأسواق الأخرى، وهذا يضر كلا من الولايات المتحدة والصين، وكذلك العديد من البلدان الأخرى".
واختتم حديثه قائلا: "يعد التضخم مشكلة عالمية، وله فرصة جيدة لإخراج جزء كبير من الطلب العالمي على السلع والخدمات من الصين والولايات المتحدة".