في سبتمبر 2019، أصدر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، تعميما يقضي بدعم السلع الأساسية (القمح والمحروقات والأدوية) من خلال تأمين اعتمادات مستندية على سعر الصرف 1500 ليرة، بنسبة 85 في المئة.
جاء هذا القرار بعدما بدأت أزمة شح الدولار في المصارف ولجوء التجار والمستوردين الى السوق الموازي أو سوق القطع لشراء العملة الصعبة، ما سبب يومها ارتفاع سعر صرف الدولار.
في نظرة على هذه السياسة، قد يكون هذا الدعم نموذجا جديدا، إذ يمد الكارتيلات المسيطرة على السوق المحلي بالاستيراد، بما تبقى من اموال المودعين الموجودة في مصرف لبنان تحت مسمى موجودات مصرف لبنان القابلة للاستعمال.
ولبنان الذي تميز بالفرادة في معالجة الامور، قرر فيه رياض سلامة ووزير الاقتصاد راؤول نعمة دعم سلة غذائية تضم 300 سلعة، منها مبيضات القهوة، وقهوة النيسبرسو، والكريم باري والكاجو.
وهذا ما لا يشبه أي دعم مماثل طبق في الدول التي تعاني أزمات، والتي تعتمد هرما غذائيا بحاجة الإنسان للوحدات الحرارية، وعلى ضوئها تقرر ما هي المواد المدعومة.
لم تقف القصة هنا، محروقات وأدوية ومستلزمات طبية فقدت من السوق المحلي، لنجدها على رفوف وصيدليات ومحطات المحروقات في دول عدة، لا سيما في سوريا.
في نوفمبر من العام الماضي أعلن حاكم مصرف لبنان أنه أنفق 5.7 مليارات دولار على هذا الدعم.
يقول عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي، صادق علوية، لسكاي نيوز عربية، إنه "لمزيد من الشفافية كان يجب أن ينشر اسم المستورد، نوع وكمية البضاعة، سعر المستهلك أو المزارع أو الصناعي، على الموقع الرسمي لرئاسة مجلس الوزراء ووزارة الاقتصاد والتجارة".
وهذا ما ورد في قرار وزير الاقتصاد رقم 87/1/أ ت حول تنظيم عملية دعم السلة الاستهلاكية الموسّعة وموادها الأولية الزراعية والصناعية، ولكن ما حصل، أن هؤلاء المستوردين أو التجار والصناعيين، لم يلتزموا لا بالأسعار التي التزموا بالبيع بها، وفق تعهداتهم الخطية ولا الكميّات التي دخلت إلى البلاد ولا أين ذهبت ولا الفواتير.
والحكومة من جهتها لم تراقب أي شيء، حتى أننا نجد أن الحكومة دعمت استيراد حبيبات البلاستيك، على سبيل المثال، لدعم صناعة البلاستيك لتصنيع صحون وأدوات بلاستيك. فهل راقبت ما هي الكمية المطلوبة؟ أو البيع بالسعر المعروض؟ ويمكن القول إن من استفاد، هم عدد محدود من التجار والصناعيين.
وبالمقابل تم تغييب دور مصلحة حماية المستهلك بالكامل، وتم ترك المواطنين فريسة سهلة لكل تاجر، وتم تهريب سلع أخرى، بدون أية رقابة لا على المستودعات ولا على المستوعبات، في حين أنه يحق للجهات المعنيّة بموجب القانون، "مصادرة" جميع المواد التموينية وكافة أنواع المحروقات، وبوجه عام جميع المواد المدعومة من الخزينة العامة، والتي يتم إخراجها من لبنان، بما فيها الآليات المستعملة لهذه الغاية.
ويتابع علوية، "لم نر تطبيقا لهذه القوانين بل وجدنا صورا لسلعنا المدعومة على رفوف دول خارج لبنان. حتى وصلت إلى لندن وصورها المواطنون. أضف إلى أن مصرف لبنان حدد في تعاميمه، ضرورة التأكد من أن الاعتمادات المستندية للدعم مخصصة حصرا لتغطية استيراد السلع المشار إليها بهدف الاستهلاك المحلي".
وأضاف "من ناحية ثانية، فإن عدد من الصناعيين والتجار وبعد أن دعمتهم الحكومة لدعم الصادرات ولجذب دولاراتهم إلى لبنان، صدّروا السلع ولم يحوّلوا قيمتها إلى لبنان، ما أدى إلى مزيد من ندرة المواد الغذائية وبالطبع الندرة ترفع الأسعار".
من جهة أخرى، قام وزير الصناعة بتعديل قرار آلية وشروط الاستفادة من أحكام دعم عمليات تمويل استيراد المواد الأولية الصناعية ليصبح الحد الأقصى للاستفادة 500 ألف دولار بدلا من 300 ألف وألغى بوليصة الشحن كمستند إلزامي وكذلك بالنسبة المواشي إذ لم تقم الوزارة بالتدقيق بلوائحها وتركت التجار بها يتحكمون بالناس.
ويعتبر علوية أن المشكلة ليست بالدعم وترشيده أو رفعه، كذلك ليست مشاكل مالية دوما، فمعظمها يكون سياسيا وإداريا في آن واحد، يمكن حلها بالحوكمة الرشيدة والشفافية لا بالمال والارقام وحدها.
ويقترح تشكيل حكومة تدرس، أو أن تقرر حكومة تصريف الأعمال، ترشيد الانفاق الكلي للاقتصاد، وأن تستورد الدولة مباشرة للنفط، ويمكنها هنا أن توفر 400 مليون دولار، كذلك تستورد القمح والأدوية، وأن تستشير المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي يضم كل مكونات المجتمع من هيئات اقتصادية ونقابات عمالية، وأن تطبق قانون حماية المستهلك للجم كل عمليات التلاعب والتهريب.
كل هذه الأمور، من شأنها ان تخفف التأثير المباشر لتغيّر سعر الصرف اليومي على الأسعار بحيث لا يتحمّل المواطن تبعات هذا التغيّر، إلا بعد نفاد البضائع الموجودة حاليا في المستودعات، والتي يعمد أصحابها من تجار وصناعيين إلى رفع أسعارها كل ساعة لتأمين رساميل جديدة من جيوب المواطنين.
من جهته، يعتبر الخبير الاقتصادي منير يونس، أن سياسة الدعم، خففت عن كاهل المستهلك كلفة لا بأس بها، مثل سعر صفيحة البنزين التي بقيت نسبياً بأسعار ما قبل الانهيار الاقتصادي، ولولا الدعم لكان سعر الصفيحة 4 إلى 5 أضعاف الأسعار الحالية، لكن بفضل دعم الوقود والمازوت بقيت تعرفة كهرباء لبنان مدعومة. وبالدعم استقرت نسبياً أسعار الدواء، فضلاً عن الخبز واللحوم وعدد من السلع الغذائية الأساسية.
بالمقابل، يقول يونس لسكاي نيوز عربية، إن الدعم شابه الكثير من الشوائب، أبرزها تهريب السلع المدعومة إلى سوريا وعدد من الدول الأخرى ليحقق المهربون أرباحاً غير مشروعة على حساب المستهلك اللبناني. ونزفاً من احتياطي العملات الأجنبية في مصرف لبنان.
ويضيف أن من الشوائب أيضا لجوء تجار إلى الغش واللعب بالسلع المدعومة، لإعادة طرحها بالأسعار السوقية الجارية. كما اختفت سلع من الأسواق بفعل التخزين سواء من المستهلكين الخائفين أو التجار الجشعين.
وأشار إلى أنه يمكن إضافة مسألة في غاية الخطورة هي أن السلطات المعنية حابت تجاراً وصناعيين معينين، ووضعتهم في قائمة مصغرة دون غيرهم ليستطيعوا الحصول على دولارات بالسعر الرسمي، وحقق هؤلاء ارباحاً ضخمة، بفعل تواطؤ واحتكارات مشبوهة.
وبين الشوائب ايضاً أن الدولارات الخارجة من مصرف لبنان، هي في حقيقة الأمر للمودعين الذين منعوا من سحب مدخراتهم بالعملة الأميركية، وأجبروا على سحبها بشكل مقنن بالليرة على سعر 3900 ليرة للدولار، أي بخسارة كبيرة جداً، وللمثال، يبلغ سعر الدولار في السوق السوداء اليوم نحو 11 ألف ليرة، ما يعني أن المودع بالدولار يخسر ما نسبته 70 إلى 80 في المئة من أصل ادخاره.
ومن شوائب الدعم أيضا "إفادة الاغنياء أكثر من الفقراء. فمن يملك عدة سيارات فخمة، يستفيد من بنزين مدعوم، أكثر من الفقير الذي لا يملك أكثر من سيارة واحدة، كذلك الأمر بالنسبة لاستهلاك الكهرباء المدعوم بين من يملك قصرا" ومن يملك شقة صغيرة.
والخطر الأكبر هو المساس بالاحتياطي الإلزامي في مصرف لبنان للاستمرار في الدعم من دون خطة بديلة، وسيأتي يوم ليس ببعيد يجد فيه لبنان نفسه من دون عملة صعبة للاستيراد ويخسر المودعون ما تبقى من فتات لهم في المصارف.
وبحسب يونس، هناك العديد من البدائل، منها طرح البطاقة التمويلية أو البطاقة التموينية التي توزع على أكبر عدد ممكن من الأسر والأفراد لا سيما أصحاب الرواتب والمداخيل بالليرة الذين فقدوا 80 إلى 90 في المئة من قدرتهم الشرائية مع انهيار سعر العملة الوطنية.
لكن من غير المعروف من أين سيأتي تمويل هذه البطاقات، فإذا كان التمويل محليا، فهذا يفرض طبع المزيد من الليرات، وبالتالي ارتفاع التضخم أكثر فتفقد البطاقات قيمتها الشرائية.
وهناك الآن قرض من البنك الدولي بقيمة 246 مليون دولار مخصص لدعم الأكثر فقرا، لكنه لا يكفي إلا لنحو 150 ألف أسرة بينما الفقر يشمل الأن أكثر من 700 ألف أسرة، وذلك القرض يغطي سنة واحدة فقط، فماذا بعد ذلك؟
ماذا بعد؟ سيتجه لبنان إلى مزيد من الفقر، وهو الدافع إلى الاحتجاجات شبه اليومية مع تداعيات أمنية وانفجار اجتماعي، ويبقى الحل في تشكيل حكومة بسرعة وإعداد خطة اقتصادية ومالية تقنع المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي ليتسنى للبنان الحصول على قروض ومساعدات إنقاذية قبل فوات الأوان، أي قبل حدوث انفجار كبير.