شكل الإضراب عن العمل الأخير الذي نفذه العمال في محافظة بوشهر الإيرانية، تحولا نوعيا في شكل الاحتجاجات على السلطة الحاكمة في البلاد، كونه لا يمثل اعتراضا سياسيا أو مطلبا عاما، بل مجرد توقف عن العمل حتى يتم دفع مستحقاتهم ورواتبهم الشهرية.
وينفذ المئات من عمال مصانع “HEPCO” إضرابا عن العمل، لحين الحصول على مستحقاتهم ورواتبهم، التي تأخرت لأكثر من شهرين، في تحرك لا يمكن للسلطات الحاكمة قمعه أو وقفه، لأنه أساسا امتناع عن الفاعلية.
خطوة العمال في محافظة بوشهر الإيرانية الجنوبية، التي من المفترض أن تكون من أغنى مناطق البلاد بثرواتها الزراعية والبحرية والصناعية، والمستمرة منذ أسبوعين حتى الآن، هي تعبير عن أوضاع طبقة العمال الإيرانيين، المقدرين بأكثر من 15 مليون عامل.
وينخرط هؤلاء في مؤسسات خدمية وصناعية عامة وخاصة ضخمة، تراجعت مستويات أدائها جميعا، بسبب الأزمة الاقتصادية في البلاد، وتأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة على القطاعات الصناعية.
وحتى الصحافة الإيرانية المحافظة، الأكثر قربا وارتباطا بأجهزة ومؤسسات الحكم في البلاد، نشرت طوال الأسبوعين الماضيين تقارير تفصيلية عن أحوال الطبقة العاملة الإيرانية، التي تراكمت عليها أثار العقوبات مع موجة وباء كورونا، الذي أطاح بعشرات الآلاف من العمال غير المحميين بما فيه الكفاية في مؤسساتهم الإنتاجية.
يضاف إلى ذلك تأثيرات التضخم الاقتصادي الاستثنائي طوال السنة الماضية، حيث تدنت أسعار العملة الوطنية الإيرانية إلى أقل من ثلث ما كانت عليه، وبقيت أجور العمال بحدودها الأولية، مع زيادات ترقيعية.
التقديرات الرسمية الإيرانية، الصادرة في أواخر الشهر الماضي، أشارت إلى أن سلة المشتريات للعائلة الإيرانية الصغيرة، المؤلفة من 4 إلى 5 أفراد، وبالحد الأدنى من أشكال المعيشة، تُقدر بحوالي 10 ملايين تومان إيراني (قرابة 400 دولار أميركي حسب سعر الصرف الحالي).
ويتجاوز هذا الرقم 3 أضعاف الحد المتوسط لأجور العمال في البلاد، بما في ذلك العاملين في المؤسسات الصناعية الخاصة، الذين يتلقون رواتب تزيد نسبيا عن الرواتب التي تقدمها المؤسسات العامة.
ممثل العمال في المجلس الإيراني الأعلى للعمل، محمد رضا طاجيك، كان قد صرح لوكالات الأنباء المحلية قائلا: "حتى زيادة رواتب العمال الشهرية بنسبة 100 بالمئة، لن تسمح للطبقة العاملة وعائلاتها أن تصل للحد الأدنى للفقر، الذي تحدده الحكومة نفسها".
وكالة أنباء "إيلنا" التي نقلت تلك التصريحات عن طاجيك، قالت إن متوسط مداخيل العمال في المدن هو بحدود 2.6 مليون تومان (104 دولار أميركي)، وأنها حتى لو تضاعفت، فإنها ستكون تحت خط الفقر.
أحوال العمال الإيرانيين تدهورت خلال العام المنصرم، حيث ارتفعت مستويات التضخم في القطاعات الغذائية والصحية وقطاع النقل، جراء رفع الحكومة المركزية لأسعار الوقود مرتين خلال عام واحد، مرة بـ50 بالمئة وأخرى بـ200 بالمئة، مما أدى لاندلاع سلسلة من الاحتجاجات في مختلف مناطق البلاد.
الباحث الإيراني في الشؤون الاقتصادية، زوهراب غلام تختي، والمقيم في مدينة برلين الألمانية، شرح لموقع "سكاي نيوز عربية" الأسباب الموضوعية التي تدفع أحوال الطبقة العاملة الإيرانية لأن تكون بهذا السوء، والتي يصنفها على 3 مستويات.
وقال: "أولا لأن القرارات الحكومية تُتخذ لأسباب تخدم مصالح السلطة الحاكمة، وليس الطبقات الاجتماعية الأكثر فقرا، فهذه الطبقات الاجتماعية الإيرانية ليس لها دور في آلية اتخاذ القرار، وغير ممثلة في هياكل السلطة، الاقتصادية منها بالذات".
وتابع: "إلى جانب ذلك، فإن العمال الإيرانيون يفتقدون إلى أية جهة نقابية أو حقوقية تستطيع تمثيل مصالحهم وحقوقهم، فالتنظيم النقابي ذو التمثيل الحقيقي للعمال، يراه النظام الحكم خطرا على استقراره".
ونوه غلام تختي أيضا إلى أن العمال الإيرانيين "يفتقدون لأية وسيلة إعلام أو أداة تأثير على النخبة الحاكمة، التي صارت تعتبر تدهور الأحوال المعيشية للعمال أمرا عاديا تماما".
مواقع التواصل الاجتماعي الإيرانية، الشبابية منها بالذات، كانت قد تناقلت خلال الأسبوعين الماضيين قصة الشخصية النقابية "بارفين محمدي" كنموذج لعلاقة السلطة الحاكمة في البلاد مع العمال، إذ حكم على محمدي في أواخر العام الماضي غيابيا بالسجن لمدة عام كامل، بتهمة "إثارة الفتنة"، لكن الدافع الحقيقي كان دفاعها عن حقوق العمال في البلاد.
محمدي المنحدرة من أسرة عاملة، والتي بلغت الستين من عمرها هذا العام، كانت قد انخرطت كعاملة بعد انهائها للدراسة الثانوية، في معمل "ميلي" للأحذية، الذي كان واحدا من "ماركات" الأحذية الإيرانية الشهيرة.
المعمل الذي تمت مصادرته من قبل السلطة بعد الثورة الإيرانية عام 1979، وتراجعت مستويات الإنتاج وحقوق العمال فيه، نفذ عماله إضرابا شهيرا عن العمل في شتاء 1981، وقادته محمدي حينها عندما كانت في العشرين من عمرها.
لكن النتيجة كانت قمع النظام الحاكم للاحتجاج عبر إدخال الدبابات إلى المصنع، وطرد محمدي من عملها.
وعملت محمدي في حضانة للأطفال مملوكة للدولة، لكنها ما لبثت أن طردت منها بسبب احتجاجها على تدني الأجور، وقد حدث الأمر نفسه أثناء عملها في معمل للصلب عام 1991، حيث تم انتخابها عام 2000 كممثلة للعمال في المعمل.
لكن محمدي بقيت تحرض العمال ضد المؤسسات الاحتكارية، التي تتخذ أسماء براقة مثل مؤسسة "الشهداء"، لتستولي وتحتكر على بعض القطاعات، وتهضم حقوق العمال في الاستفادة من تنافس المؤسسات والمصانع.
خلال الأعوام الماضية، كانت محمدي تجمع توقيعات العمال الإيرانيين للمطالبة بحقوقهم وحوافز عملهم، وأنشأت مع جعفر عظيم زاده "الاتحاد الحر لعمال إيران"، الذي تمكن عام 2019 من ضم 40 ألف عامل، وهو ما اعتبرته السلطات في إيران "مسا بأمنها القومي"، فلاحقت محمدي، التي لا تزال غائبة عن الأنظار، وحكمت عليها بالسجن، فيما تستمر أحوال الملايين من عمال إيران بالتدهور.