تسابق الحكومة الجزائرية الزمن من أجل الخروج من عباءة الذهب الأسود كمصدر دخل وحيد اعتمدت عليه البلاد على مدار عقود، والدخول في عهد جديد يعتمد على تنويع الاقتصاد من أجل مواجهة التحديات السياسية والاجتماعية والأمنية التي تحاصرها.
وترتكز رؤية الحكومة الجزائرية على دعم الفلاحة الصحراوية والطاقة النظيفة والتنقيب عن الاحتياطيات الجيولوجية وترقية السياحة الصحراوية.
ومن أجل ذلك، تم استحداث ديوان خاص بالتنمية الزراعية في المناطق الصحراوية، كما وجهت مزيدا من الاهتمام لمشروع ديزيرتيك للطاقة الشمسية في الجنوب لإنتاج 15 ألف ميغاواط من الكهرباء بحلول عام 2030.
كما اضطرت السلطات لإجراء تعديل حكومي جزئي مؤخراً، تقرر بموجبه استحداث وزارة خاصة بالمناجم كلف بها محمد عرقاب، الذي كان وزيرا للطاقة، فيما أسندت الحقيبة الأخيرة لعبد المجيد عطار.
وفي آخر اجتماع له مع مجلس الوزراء، شدد الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، على ضرورة الإسراع في التحضير لدفتر شروط ديوان تنمية الزراعات في المناطق الصحراوية، داعيا للتفكير في بدائل اقتصادية تنقل البلاد من الاعتماد الكلي على الاقتصاد الريعي للنفط، والاعتماد على الصحراء الكبرى وتحويلها إلى قطب اقتصادي وتنموي كبير عبر ربط تلك المناطق بالكهرباء والغاز الطبيعي وتطوير شبكة المواصلات والقطارات لفك العزلة عن الجنوب الكبير.
وتشكل مساحة الصحراء 87 بالمئة من مساحة الجزائر، وحتى الآن لم تستخدم سوى 14 بالمئة من مساحتها الكلية، كما تشير الدراسات إلى أن الجزائر ظلت عاجزة ولمدة 58 عاما عن إقامة جرد لثوراتها الباطنية والتربة والمناجم الغنية باليورانيوم والذهب والغاز.
وفي دراسة أميركية نشرها مركز البحث الأميركي عام 2019، كشفت أن ما تزخر به الصحراء الجزائرية من ثروات يفوق ما قيمته 26 تريليون دولار، هي عبارة عن ثروات مدفونة في الصحراء لم تستغل ولم تستثمر.
ويشير خبراء الاقتصاد إلى أن ذلك تسبب في عجز قيمته 200 مليار دولار للاستثمار الاقتصادي في الصحراء، وهو رقم كبير جدا يفوق ضعف احتياطي البلاد من الصرف المقدر حاليا بـ62 مليار دولار، بحسب تصريح محافظ بنك الجزائر سابقا ووزير المالية حاليا، أيمن بن عبد الرحمن، في فبراير الماضي، مع توقع تراجع الاحتياطي إلى 51 مليار دولار بنهاية السنة الجارية.
قراءة جيو استراتيجية
ومن خلال قراءة جيو استراتيجية، نلمس كيف أن للصحراء الجزائرية رمزية سياسية وتاريخية واقتصادية، وقد كانت ورقة التفاوض على استقلال الصحراء الجزائرية الكبرى واحدة من أبرز النقاط الخلافية، في محادثات "لو غرام" ما بين 20 - 28 يوليو 1961.
ولا يوجد أبلغ من حكاية الجنرال الفرنسي شارل ديغول مع أحد قيادات الثورة الجزائرية الراحل كريم بلقاسم، عندما حاول فرض خريطة تقسيم البلاد، باستحواذ فرنسا على الصحراء مقابل التوقيع على استقلال الجزائر، فخاطبه كريم بلقاسم وقتها: "ليس لدينا وقت نضيعه معكم".
وبالكاد كانت للصحراء أهمية في خطابات كل رؤساء الجزائر دون استثناء، وفي نص البيان الختامي لأول اجتماع مجلس الوزراء قاده الرئيس تبون بتاريخ 19 يناير 2020، ردد كلمة الجنوب 8 مرات في محاور استراتيجية وتوصيات وقرارات وقد عكس برنامجه الانتخابي، ذلك عندما تحدث عن تحول جانت وإليزي وبرج عمر دريس إلى منطقة للتجارة الحرة، كما ووعد بإنشاء معهد متخصص في الفلاحة الصحراوية.
وحسب الخبير الاقتصادي والمالي، نبيل جمعة، فإن الإشكالية التي واجهت الجزائر منذ الاستقلال عام 1962 إلى يومنا، تتمثل في تعاقب حكومات وأنظمة سياسية تلوثت يديها بالفساد.
وقال لـ"سكاي نيوز عربية" إن تلك الحكومات خلفت تركة ثقيلة من سوء التسيير، وفتحت الأبواب لنهب ثروات الجنوب، وقد تحولت العديد من قرارات كبار المسؤولين إلى قضايا فساد وسوء استخدام الوظيفة، منها القضايا التي يتابع فيها الوزير الأسبق للطاقة، شكيب خليل.
ويصل عدد سكان الجنوب الجزائري إلى أزيد من 2.5 مليون نسمة، أي أقل من 0.5 بالمئة من مجموع سكان الجزائر البالغ تعدادهم 42.9 مليون نسمة (بحسب إحصائيات الديوان الوطني للإحصاء عام 2020).
أحداث تين زواطين
ويبدو أن وداعة أهل الصحراء وميلهم إلى لغة الهدوء دون إثارة الاضطرابات والقلاقل رغم التهميش وغياب التنمية، جعلت ساسة البلاد على مدى عقود يمارسون لغة الوعود الجوفاء، التي راكمت الثروة بيد بعضهم، بينما بقيت تلك المناطق تعيش في الظل وعلى الهامش، وقد ولدت هذه السياسات حالة من الإحباط ودفعت الكثير من أبناءها إلى اليأس وربما ممارسة أنشطة خارج نطاق القانون.
وقد دقت الأحداث الأخيرة في منطقة تين زواطين بأقصى الجنوب الجزائرية مع حدود مالي، جرس الإنذار، للحكومة الحالية، خصوصا بعدما تظاهر الأهالي هناك، ورفعوا شعارات تطالب بأبسط حقوق العيش الكريم، عندما هتفوا بضرورة توفير المياه، في إشارة إلى أن تلك المناطق تعاني شح المياه، ناهيك عن انعدام مشاريع التنمية واستفحال البطالة وانسداد الآفاق.
ويرى خبراء الاقتصاد في الجزائر أن تبون فطن لخطورة الوضع الاجتماعي الهش في المناطق الجنوبية، والتي تحاول بعض الجهات الاستفادة منها، وجعلها ورقة مساومة لزيادة الضغط لأغراض سياسية، لذلك رسم الرجل خارطة طريق مستعجلة لتنمية الصحراء وفك العزلة عن "مناطق الظل".
وقد فرضت الخطط الجديدة تغيير شكل الحكومة، وتعيين وزارة للطاقة وأخرى للمناجم، بالنظر لحجم الكنوز المطمورة في الجنوب، دون أن تستغلها البلاد، التي هي في حاجة ماسة لدفع عجلة التنمية وخلق الثروة المأمولة.
ومؤخراً قامت منظمة "أرباب العمل" في الجزائر بعقد اجتماعات ماراثونية للمشاركة في دعم خريطة الطريق، التي تعتمد على تشجيع المستثمرين الحقيقيين، ومحاربة سياسية الاستثمارات الوهمية، التي طغت على نهج التسيير إبان حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
وخلفت تلك السياسات نتائج وخيمة على الاقتصاد الوطني، وجعلت أبناء كبار المسؤولين أثرياء جددا وأصحاب عقارات تتجاوز مساحتها مساحة الدول، كما هو شأن عائلة الوزير الأول السابق عبد المالك سلال، المحكوم عليه بالسجن 12 عاما، حيث كشفت التحقيقات، استحواذ ابنته "ريم" على أراضي صحراوية شاسعة.
تثمين للسياسة الجديدة
ويرى متابعون للمشهد الاقتصادي وخاصة الفلاحي أن ولاية واحدة من ولايات الجنوب الكبير مثل ولاية بسكرة (400 كلم جنوب شرقي العاصمة)، لديها القدرة على تأمين حاجيات الجزائر من المواد الغذائية، كما أثبتت الدراسات المحلية أن المواد الغذائية من خضر وفواكه جزائرية تتمتع بجودة عالية مقارنة بمنتوجات نظيرتها في باقي الدول العربية، إلا أن المشكلة في الجزائر مرتبطة بآليات التصدير وغياب مكاتب الاستثمار، بعدما حاول عدد من المستثمرين فتح مكاتب، لكنهم واجهوا بيروقراطية مقيتة.
وتحاول الحكومة الجديد استدراك أخطاء الماضي، بالاعتماد على سياسة أكثر مرونة، عبر تخفيف العراقيل وإزالة العقبات أمام المستثمرين، كما تم فصل وزارتي الصحراء والهضاب العليا وإعادة تنظيم الجهاز الإداري وهو الأمر الذي يقول خبراء إن نتائجه قد تنعكس بعد عام من الآن على واقع التنمية الفلاحية في الجنوب.
ولدعم تلك المخططات، تتجه الحكومة أيضا لمراجعة قانون الضرائب، لسن ضريبة 10 بالمئة بدلاً من النسبة التي كانت تتراوح بين 35 إلى 65 بالمئة، من أجل استقطاب المستثمرين الأجانب وتشجيعهم على المجيء إلى البلاد، كما تقرر مراجعة القوانين ذات الصلة بمناخ الأعمال في الجزائر بما يتناسب مع البيئة الدولية.
الفرق بين الرهانات وتحديات الواقع
ورغم ملامح التغيير في مناخ الأعمال ومحاربة البيروقراطية، إلا أن الأمر يبقى محفوفا بالمخاطر والتحديات، ولا يبدي الخبير الاقتصادي الجزائري لدى البنك الدولي، محمد حميدوش، الكثير من التفاؤل.
وأوضح أن خريطة الطريق الحكومية تجاه الصحراء تندرج ضمن ما يوصف بسياسة الشروط القصوى، وهو أمر معقد لا يندرج في خانة الرهان وإنما التحديات.
ويؤكد حميدوش أن النهوض بواقع المناطق الصحراوية مهمة معقدة للغاية تتطلب شروط خاصة، على اعتبار أن التنمية والإصلاح الاقتصادي في تلك المناطق، التي تبعد عن العاصمة الجزائر بمئات الكليومترات، لا يمكن أن يتحقق دون إصلاح شبكة المواصلات وفي مقدمتها خطوط القطار السريع.
الحل في الشريك الصيني
ويؤكد الخبراء أن أقل مشروع في الصحراء يتطلب ميزانية تتجاوز الثلاثة مليار دولار، وهو ما يتجاوز ميزانية الدولة مقارنة بخطاب السلطات الذي يرفض الذهاب إلى الاستدانة، بينما لم يحدد مكانة القطاع الخاص.
ويضرب الخبير الاقتصادي حميدوش المثل بدولة الإمارات العربية المتحدة، التي عرفت كيف تحقق قفزة نوعية في ظرف قياسي على أراضي صحراوية تشبه مناخ الصحراء الجزائرية الكبرى.
وفي مطلق الأحوال، فإن الصحراء الجزائرية تقف أمام عقلية الموظف والإدارة البيروقراطية، وواقع مرهون بالقوانين التنفيذية التي تحتاج إلى تفعيل المنطق التجاري، ومراجعة النظام البنكي.
ويجمع الخبراء على أن خريطة الطريق المطروحة حالياً تجاه رمال الصحراء، تختلف عن أيام الثورة الزراعية التي عرفتها البلاد في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين (1976-1978)، حيث تتجه البلاد اليوم وبشكل متسارع نحو منطق التنوع في الاقتصادي والبحث عن شركاء جدد والقضاء على احتكار الشركات الأوروبية، وهنا تراهن الجزائر على الشريك الصيني بمنطق اقتصادي بحت.