استمعت إلى حديث رئيس إحدى شركات تكنولوجيا المعلومات العالمية الكبرى فقال بهدوء الواثقين إنه على الجادين في البحث عن عمل لائق، في هذا العالم الذي يشهد ثورة صناعية رابعة، إجادة المهارات التي تجعلهم أقل تكلفة من آلات عالية التقنية أو أكثر كفاءة منها أو الاثنين معاً.
هناك خلاف حول ما يمكن أن نطلق عليه "ثورة صناعية"، فقد ذاع مؤخراً، أن الثورة الصناعية الأولى استغلت اختراع المحركات البخارية في إحداث نقلة نوعية في اقتصاديات الحجم والتوطين الصناعي، والثانية استخدمت اكتشاف الكهرباء في استحداث منتجات جديدة غيرت أنماط الإنتاج و حياة البشر، فيما اعتمدت الثالثة على المستحدثات التكنولوجية التي ارتبطت باختراع الحاسب الآلي.
إلا أن الثورة الصناعية الرابعة تمثل نقلة كبرى مع منتجات وتأثيرات الاقتصاد الرقمي وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي.
بعض من هذه المنتجات سيزيد من إنتاجية العامل، والبعض الآخر سيحل محل العامل نفسه.
والأمر هنا غير قاصر على إحلال الماكينات محل عمال مهرة وآخرين من متواضعي الإنتاجية كما حدث من قبل، لكن هذا الأمر سيطول أصحاب ياقات بيضاء وتخصصات دقيقة ممن ظنوا أنهم بمأمن.
وإذا استرجعنا التاريخ نجد أن هذه المستجدات التكنولوجية، بميزان عصرها، صحبتها اضطرابات تصدى لها حكام باللجوء إلى إجراءات استثنائية متهافتة تنتمي إلى رد الفعل ظناً أنها ستجدي نفعاً.
فقد ذكر الاقتصادي الفرنسي بول لروا بوليو في كتابه المعنون "الموجز في علم الاقتصاد"، الذي ترجمه إلى اللغة العربية الشاعران حافظ إبراهيم وخليل مطران في عام 1913، أمثلة لردود أفعال بعض الحكام والعامة أيضا لما ترتب على الابتكار والاختراع في أزمنتهم على مدار السنوات المصاحبة واللاحقة على الثورة الصناعية الأولى.
لقد هدد السوقة بالقتل، المخترع المشهور جاكار الذي أنتج منوالاً ميكانيكياً، وأحرق مجلس حكماء مدينة "ليون" الفرنسية كرسيه إذ كان عضوا بمجلسهم، وحظرت مدينة دنزغ الألمانية استعمال الأنوال الميكانيكية وأغرق الغوغاء منتجاتها، وعارض الرئيس المكسيكي سنتانا مد خطوط السكك الحديدية حرصاً منه على مصالح أصحاب البغال، وحطم صيادون وبحارة أول مركب بمحركات بخارية لظنهم أنه سيسبب لهم البطالة.
هي أمثلة لردود فعل معتادة لنهايات محتومة، فالفيصل بين التقدم والتخلف يرتبط بسرعة توافق المجتمعات والاقتصادات لمستجدات العلم والتكنولوجيا و ترويضها لاحتياجات الناس ونمو النشاط الاقتصادي وتحقيق التنمية.
وفي الزمن المعاصر، تتصاعد حدة الموجات الحمائية ضد حركة التجارة من قبل بعض الدول المتقدمة رغم تأكيد منظمة التجارة العالمية أن الواردات مسؤولة عن 20 في المئة فقط مما قد يفقد من فرص عمل في الدول المتقدمة، أما 80 في المئة من فقدانها فيرجع إلى عدم ملاحقة التكنولوجيا والابتكار والتطوير.
ولم يعد هذا قاصراً على القطاع الصناعي التقليدي، كما هو معتاد، بل امتد الأمر إلي قطاعات الخدمات وتجارة السلع الاستهلاكية وكذلك إنتاج السلع الالكترونية والتكنولوجية.
ألم تر تلك المحال المشهورة لبيع السلع تغلق مئات من فروعها سنوياً في أمريكا وأوروبا بعدما كانت مقاصد مختارة للمشترين؟ وكان ذلك لمنافستها من قبل مقدمي خدمات التجارة من خلال الانترنت بتكنولوجيا معلوماتية أكثر تقدماً.
ألم تتابع اختفاء أسماء منتجات كبرى في مجالات الهواتف والاجهزة الإلكترونية انحسر السوق عنها لصالح أسماء جديدة تفوقت عليها نوعية وكفاءة وفضلتها سعراً؟
وفي محاولات دول متقدمة تحديد موقف جديد لها من حرية النشاط الاقتصادي والمنافسة، تجد دولاً نامية تنطلق مستخدمة التكنولوجيا الجديدة والاستثمار في البنية الأساسية وتطور رأسمالها البشري وتستغل المستحدثات الجديدة في الطاقة المتجددة فتحدث قفزات في النمو واضطرادا غير مسبوق في مؤشرات التنمية المستدامة.
أري في تطور التكنولوجيا، وخاصة في مجالات الاقتصاد الرقمي وتكنولوجيا المعلومات، فرصاً للشباب العربي في سوق العمل إذا أحسنا الاستفادة من الميزة الوحيدة للتأخر عن السابقين علينا وهي التعلم من تجاربهم في الاستفادة من الثورات الصناعية الثلاث السابقة وقد كان حظ الدول العربية منها قليلا.
وفي هذا المضمار لن تتكلف الاقتصادات العربية أعباءً باهظة للتخلص من تكنولوجيا قديمة كحال الدول الصناعية القديمة، وما يصاحب ذلك من إعادة هيكلة مكلفة وتعويضات، لكن عليها الاستفادة من صغر أعمار مواطنيها و غلبة الشباب في التركيبة السكانية والنظر لهذا التدفق البشرى بمثابة نعمة تستثمرها بحسن التعليم المبتكر والاطلاع على المعارف وتوجه إنفاقها للارتقاء بنوعية التعليم وترسل البعثات التعليمية للشرق والغرب، فلم يعد التطور حكراً على دول مجموعة الدول الصناعية الكبرى.
كما لا ينبغي في عالم اليوم أن ينظر البعض إلى تكنولوجيا المعلومات على أنها تخصص مستقل منعزل، فقد اندمجت فعلاً في كافة مجالات الإنتاج والحياة من إنتاج الغذاء إلى علاج الناس وتعليمهم وتيسير انتقالاتهم وسكناهم وأعمالهم وتعبئة مدخراتهم واستثمارها، فضلاً عن سبل الترفيه عنهم وغير ذلك.
وفي هذا الشأن تجد تطوراً محتوماً للتعليم من عملية رتيبة لا تزكي معرفة ولا تطور مهارة وتنتهي بشهادات مختومة لإتمام دراسة لا تفيد أصحابها إلا قليلا.
فالمستقبل لمن سعى إلى التقدم ولم يستنفد جهده متعلقاً بالأوهام بأحبال واهية، وهو مرتهن بنظم جديدة ومبتكرة للتعلم المستمر، المتطورة في علومها والمرتقية بالمعارف والمرتبطة بتغيرات سوق العمل وسابقة، ولا أقول مواكبة، لمستجدات العصر ومتطلباته.