يذكرك كتاب "أوروبا: تاريخ وجيز"، الذي قمت بترجمته إلى اللغة العربية من أصله المكتوب باللغة الإنجليزية لمؤلفه المؤرخ الأسترالي جون هيرست، بتعليق الأديب الأميركي الأشهر مارك توين على مقولة "التاريخ يعيد نفسه" التي يرددها البعض، فاستعان بطريقة نظم أبيات الشعر قائلاً إن "التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يتبع نفس القافية".

فالنظرة الخاطفة لتطورات التاريخ، ومقارنته بمجريات الحاضر قد تدفع المتابع للاعتقاد في تكرار الأحداث والحوادث، لكنها تتشابه في أحوال كثيرة، خاصة مع ما تظهره النهايات والبدايات من توافق عبر الزمن.

وحركة التاريخ تفاعلاتها معقدة وتشابكات أشخاصها الفاعلين وثقافاتهم ومحلهم الجغرافي، وتتحدى التعلم من دروس التاريخ الكفيل بعدم تكرار أخطاء السابقين وزلاتهم.

ومع استعراض جون هيرست للتاريخ الأوروبي منذ نشأته الكلاسيكية اليونانية/الرومانية إلى الزمن المعاصر لما بعد الحرب العالمية الثانية، نرى أن أوروبا التي نعرفها اليوم شكلتها 3 عناصر انصهرت مع بعضها في بوتقة كونت بدايات الحضارة الأوروبية، هي ثقافة اليونان القديمة وروما، والديانة المسيحية، وثقافة المحاربين الجرمانيين الذين غزوا الإمبراطورية الرومانية.

ونرصد تطورات هذه الحضارة مع بزوغ حركة النهضة في إيطاليا وانطلاق الإصلاح الكنسي في ألمانيا ونشأة الحكومة البرلمانية في بريطانيا واشتعال الديمقراطية الثورية في فرنسا.

يعرف هذا الكتاب القاريء، أو يذكره بعد معرفة، بأن الإمبراطورية الرومانية لم تسقط سقوطاً مفاجئاً بل تآكلت بعد ضعف ووهن، وأنه حتى بعد سقوط روما عاصمة الإمبراطورية التليدة في عام 476 ظل هناك ما يعرف بالإمبراطورية الرومانية المقدسة، التي تطورت في بداية العصور الوسطى الأوروبية مع تتويج الملك شارلمان عام 800. 

واستمر تاج الإمبراطورية الرومانية المقدسة تتناقله رؤوس ملوك أقوياء وضعاف طمحوا إلى استرجاع مجد الإمبراطورية القديمة بلا جدوى، وذلك لقرون طويلة حتى أصبحت كيانا هزيلاً أثار سخرية فولتير، أحد رواد حركة التنوير في القرن الثامن عشر، بقوله: "ليست إمبراطورية ولا رومانية ولا مقدسة".

واستمر هذا الكيان حتى قام الإمبراطور فرانسيس الثاني بحل الإمبراطورية في عام 1806 بعد إعلان نابليون قيام كونفدرالية "الراين".

لكن تأثير الحضارة الرومانية، واليونان من قبلها، على الغرب المعاصر لا يمكن نكرانه سواء في نظم الحكم أو القوانين أو الثقافة أو السياسات العامة وكثير من مضامينها و مظاهرها. 

المثير للتأمل هو قدرة الأوروبيين على استعادة القيم والعلوم والفلسفات لليونانيين والرومان بعد اندثارها لقرون، وإعادة بعثها مع عصور النهضة والتنوير، و البناء عليها بعد تحديثها وتجديدها.

وقد كان للعرب فضل كبير في حفظ وتجديد ونقل هذه العلوم لأوروبا من جديد في إطار حركة نشيطة للترجمة والنسخ.    

وباستثناء تفاصيل تتغير مع مرور الزمن تجد هذا الاختلاف الواضح بين الأوروبيين بشأن موضوعات رئيسية كمدى التعاون وحدود الاندماج الأوروبي.

فهناك من يدعو للانصهار الكامل والاندماج التام والوحدة السياسية فيما عرف بالولايات المتحدة الأوروبية بما في ذلك دستور موحد لأوروبا. 

وعلى النقيض من ذلك هناك من يدعو للاستقلال القطري التام وقصر العلاقة على تعاون اقتصادي في مجالات التجارة والاستثمار دون توسع أو تعميق لهذا التعاون، بل والخروج مما تم الاتفاق عليه مسبقاً من أشكال أعلى للتعاون كالسوق الأوروبية الموحدة والوحدة النقدية.

وفي هذا كله تبدو أوروبا كأنها في معضلة حقيقية حول هويتها كلما تعرضت لأزمة أو صدمة أو جدل عميق حول موضوع هام كمقترح انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، أو الأزمة الاقتصادية اليونانية وما صاحبها من حديث حول خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي فيما عرف إعلامياً "بالغريكزيت"، أو التعامل مع الأزمة الإنسانية للاجئين وتفاقمها في عامي 2015 و2016، و الموقف من سياسات الهجرة والاختلاف الشديد حولها الذي كان من مسببات خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي فيما عرف إعلامياً "بالبريكزيت".

قد تجد بعض الإجابات من التاريخ الذي استعرضه جون هيرست على هذا السؤال المحوري المثار حاليا حول الهوية الأوروبية، وإن كان يبدو أكثر تفاؤلاً عن واقع الحال الأوروبي و تطوراته. فقد انتهي هيرست من كتابه وأزمات أوروبا أقل حدة مما نراه اليوم.

ينهي جون هيرست كتابه بالحديث عن الاتحاد الأوروبي وعن مشروع الدستور الأوروبي الذي تم إعداده عام 2004 كوثيقة واحدة وموحدة تحل محل اتفاقيات الاتحاد الأوروبي المتناثرة وتجعله اكثر تجانساً وتكون له الأولوية على الدساتير الوطنية.

تعطل هذا المشروع لدستور أوروبي رغم التوقيع عليه من ممثلي الدول الأعضاء لعدم التصديق عليه من قبل عدد من الدول ورفضه في استفتائين شعبيين في فرنسا وهولندا في عام 2005. وجرى انتقاد نصوص الدستور بشدة لعدم وضوحها وارتباك تفسير ما قد يترتب عليها.

على أي حال، فالمؤلف معجب بديباجة دستور الاتحاد الأوروبي، رغم عدم إقراره أبداً. وكان هناك جدل حول ما يجب أن يكتب في هذه الديباجة.

فقد رغب البابا أن يشار فيها إلى المسيحية وهو ما عارضته فرنسا، واكتفت الديباجة بالإشارة للموروث الديني لأوروبا المرتبط بالإرث الإنساني.

وكان التنوير العامل الأكثر تأثيراً في هذه الديباجة التي أشارت للالتزام بحقوق الإنسان، واتباع سبل التقدم والرفاه.

وأفسحت القومية في النص مجالاً للاتحاد بالتأكيد على تجاوز الانقسامات السابقة لتشكل أوروبا مصيرها المشترك.

وفي النهاية هذه مجرد كلمات في ديباجة لدستور لم يصدق عليه، وحلت محله معاهدة لشبونة التي دخلت حيز التنفيذ عام 2009. وهي معاهدة أقل طموحاً، أُعدت كحل وسط بعد الاعتراضات التي مني بها مشروع الدستور الأوروبي.

إن تاريخ أوروبا هو محصلة لفرص، ولا أقول لصدف، أحسن استغلالها سلماً وحرباً زعماء سياسيون دعموا حكمهم بسياسات فعالة ومحكمة، وتطورت مؤسسات وقوانين حمت قيم العلم والتقدم وساندت حركة الفكر والحريات والعمران والحضارة.

يذكرنا التاريخ بما يترتب على الانحراف عن تلك القيم والأسس من أزمات كبرى ونزاعات وصراعات شهدها تاريخ أوروبا السحيق و الحديث.