ستنتهي الاشتباكات التي اندلعت على الحدود اللبنانية الجنوبية مع إسرائيل منذ 8 أكتوبر الماضي إلى تفاهمات قد ترقى إلى مستوى الاتفاق.

الحرب الكبرى ممنوعة دوليا وإيران المعنيّة بحماية حزبها في لبنان سعت منذ الأيام الأولى التي تلت "طوفان الأقصى" إلى ضبط إيقاع النيران المنطلقة من "محوَرها" وراحت ترسل وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان لتأكيد هذا الانضباط كلما أنزلت إسرائيل الخسائر في صفوف الحزب.

والمسألة التي تشغل بال الموفدين الدوليين، على الأقل بحركة وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون ونظيره الفرنسي ستيفان سبجورنيه صوب بيروت وتحرّك المستشار الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين نحو تل أبيب، هي وضع ترتيبات تتعلّق جغرافيا بجنوب نهر الليطاني. والجدل يدور حول عدد الكيلومترات التي ينسحب حزب الله منها بعيدا عن الحدود على نحو "يُطمئن" سكان المستوطنات شمال إسرائيل ويسمح بعودتهم إليها. وعلى هوامش هذا المتن تروج جعجعة بلا طحين بشأن ترسيم الحدود البرّية وترتيب ملفات النزاع حول قرية الغجر ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا.

لن يعارض حزب الله وإيران من ورائه أي ترتيبات تتعلّق بجنوب نهر الليطاني. الأمر يعترف دوليا بالحزب شريكاً للتسوية وصاحب النفوذ الأول في بيروت لتقرير مسائل استراتيجية مثل الحرب والسلم ومستقبل نزاع البلد مع إسرائيل. والأمر الذي ستنتهي إليه المداولات بشأن جنوب نهر الليطاني لن يمسّ السطوة التي يمتلكها الحزب على مقاليد البلد وإدارته شمال هذا النهر.

عرف لبنان تجربة لا ينساها في هذا الصدد. حظي التدخل العسكري السوري في لبنان عام 1976 برعاية دولية وبرضى إسرائيلي طالما أن الانتشار السوري آنذاك يتوقف عند "خطّ أحمر" بعيدا عن الحدود اللبنانية الإسرائيلية. وحتى حين انكفأ الجيش السوري إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، فإن قواعد هذا التفاهم ظلت محترمة حين عادت دمشق لاحقا لنشر جيشها في بيروت ومناطق لبنانية أخرى. وطالما أن مسرح الجهد العسكري السوري كان لا يتمدد إلى جنوب الليطاني (لا بل أن من مهامه قبل الاجتياح ضبط فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان)، فإن إسرائيل والولايات المتحدة من خلفها لم تكن معنية بأجندة دمشق شمال الليطاني.

بهذا المعنى، فإن جنوب الليطاني منطقة عمليات تخضع للقرار 1701 الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي إثر حرب عام 2006، وبالمحصلة خاضعة للتفاهمات الدولية التي -على منوال "تفاهم إبريل" إثر حرب 1996- يتمّ انتاجها وفق تقاطعات دولية تتّسق مع مصالح كل مرحلة. وما نستنتجه هذه الأيام أن عواصم النفوذ معنيّة بحلّ أزمة "أمن إسرائيل" في هذه المنطقة الجغرافية حتى لو أتت على حساب أزمة لبنان نفسه شمال الليطاني.

داخل هذا السياق تبدو الدولة اللبنانية بليدة مزهوة بتوافد الوزراء الغربيين والموفدين والدبلوماسيين متحصنّة وراء "الأمر الواقع" الذي يفرضه حزب الله متبرّمة من أي تساؤل بشأن قرار حكومة لبنان السيادي المفترض أن يكون مستقلاً عن إرادة الحزب. عبّر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي عن هذا الواقع حين استهجن سؤال إحدى الصحفيات بشأن هذه الإشكالية وأجابها: "أين تعيشين في لبنان أم جزيرة كوراساو؟" حتى أن الرجل بصفته يمثّل دولة لبنان في غياب رئيس للجمهورية تبنى خطاب حزب الله في أن الحديث عن تهدئة في لبنان فقط دون وقف سريع لإطلاق النار في غزّة "أمر غير منطقي".

قد يمكن الجدل بشان موقف ميقاتي ومؤسّسات الدولة في ظل ظروف البلد وواقعه في السياسة والاقتصاد والأمن و"الأمر الواقع". لكن حزب الله يتحضّر من خلال خطب زعيمه النارية والمداولات الخلفية معه ومع إيران لآلية تناسبه في جنوب لبنان وتؤمّن له حصانة تستمر في إطلاق يده في تقرير مسارات لبنان ومصائره. وتحضّر له الدولة اللبنانية بحكومتها ومؤسّساتها بالمقابل البيئة الحاضنة المرحّبة بوصاية طهران على قرار بيروت، وهو أمر ما فتئت توحي به زيارات عبد اللهيان إلى بيروت ناظما لإيقاعات النار جنوب لبنان مقررا أن "أمن لبنان من أمن إيران". وهنا يبدو لبنان متأمّلا تراكم الظروف الإقليمية والدولية التي قد تخلُص إلى الإقرار للحزب بإدارة وصاية طهران كما تراكمت ظروف مماثلة قبل عقود لاستيلاد وصاية دمشق على لبنان.

يمكن للمراقب تأمل مقدار الغضب الذي عبّر عنه حزب الله من خلال جيوشه الإلكترونية ضد رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري في الأيام الأخيرة. عاد الرجل بضعة أيام لإحياء ذكرى والده الذي اغتيل في 14 فبراير عام 2005. ذكر في مقابلة تلفزيونية أن قتلة والده هم عناصر من حزب الله وفق ما كشفته المحكمة الدولية الخاصة. قال: "وأنا أعرف أن من اغتال رفيق الحريري سيدفع الثمن وهو يدفع الثمن". أطلقت أجواء الحزب هجوماً يتهم سعد الحريري بأنه جاء مكلّفا لإثارة الفتنة في البلاد.

الواقعة تمثّل مقدار الضيق من عدم تمكّن الحزب من طيّ صفحة الجريمة لدى اللبنانيين وما يسببه الأمر من أضرار موجعة تطال مسار تمكين سطوة الحزب نهائيا على البلد. تمثّل أيضا ضيق الحزب من الاتفاق السعودي الإيراني الذي وقع في بكين برعاية الصين في 10 مارس 2023. ورغم صمود هذا الاتفاق وإعلان الرياض وطهران التمسك بروحيته، فإن الحزب جاهز لقلب الطاولة والتذكير بالفتنة والمحرضين عليها من الخارج. وهو ضيق يكشف مدى حساسية الحزب لاستقرار سطوته شمال نهر الليطاني وخصوصا على صيرورة الحكم في بيروت وسلامة سردية الحزب داخله.

من مصلحة حزب الله التوصّل إلى ترتيب يوقف جبهة الجنوب التي دفع ثمنها لبنان أكثر من 250 قتيلا، منهم حوالي 200 قتيلا في صفوف الحزب منهم مسؤولين كبار، ناهيك من حالة النزوح والرعب في قرى وبلدات المنطقة. ومن مصلحته أيضا أن يكون الاتفاق-التفاهم تعبيداً لمرحلة يفرض فيها تركيبة سياسية للحكم تبدأ من شخص رئيس للجمهورية يواليه ويأمن له. وربما على لبنان واللبنانيين التنبّه إلى ما يحمله الموفدون الدوليون، أصحاب السترات الأنيقة والكلام المنمّق، من ملفات خبيثة تسعى لعقد صفقة ترتاح لها إسرائيل غير آبهين بمصير لبنان شمال نهر الليطاني الذي لا يخضع للقرار 1701 وشروطه.