عندما وافق جو بايدن على الالتحاق بحملة باراك أوباما الانتخابية كمرشح لمنصب نائب الرئيس، كان قد عقد العزم على أن هذه المَهمة ستكون آخر المطاف بالنسبة له، إذ كان سيكمل الرابعة والسبعين من عمره بانتهاء رئاسة أوباما الثانية، وسيكون حينها قد تجاوز سن التقاعد بتسع سنوات، لذلك لم يرشح للرئاسة بعد انقضاء ولاية أوباما.
لكن فوز دونالد ترامب في انتخابات عام 2016، واتِّباعه سياسات انقسامية في أمريكا، وانعزالية في العالم، وتفكيكية للتحالف الغربي وحلف الناتو، قد أثار هلعا في الطبقة السياسية الأمريكية، سواء في الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، الأمر الذي جعل الأنظار تتجه إلى شخصية سياسية ذات خبرة طويلة وقدرة كبيرة يمكنها إلحاق الهزيمة بدونالد ترامب وتياره اليميني المتشدد.
ومن المزايا التي تمتَّع بها بايدن، وعززت من أهليته للفوز، هي أنه أكبر سنا من ترامب، ما يعني أنه سوف يستقطب طبقة المسنين، الذين صوتوا لترامب سابقا، وأنه لِبراليُّ التوجه، ذو ميل يساري لمساعدة الفقراء، ما يعني أنه سوف يستقطب العمال والطبقات الفقيرة، التي عزفت عن التصويت لهيلاري كلنتن، وأنه كان نائبا للرئيس باراك أوباما، ذي الأصل الأفريقي، أي أنه سيستقطب الأفارقة الأمريكيين، وبالتأكيد سيحظى بدعم رئيسه السابق، ذي التأثير الواسع.
وبعد حملة إقناع قادها زعماء الحزب الديمقراطي، وافق بايدن على خوض الانتخابات لمنع ترامب من تفكيك التحالف الغربي وإثارة مزيد من الانقسام في المجتمع الأمريكي، إذ كان سيبلغ الثامنة والسبعين بحلول نهاية رئاسة ترامب الأولى، والثانية والثمانين بنهاية رئاسته الأولى في حال انتخابه. كان بايدن مكلوما بموت ابنه البكر، بو، ذي الخمسة وأربعين عاما، الذي كان يعقد عليه الأمل بأن يكون الرئيس المقبل لأمريكا.
أي نظرة موضوعية لسجل بايدن لا يمكن أن تهمل محطات مضيئة في حياته السياسية والفكرية، ولا شك أن أهمها الإطاحة بالرئيس الشعبوي المثير للانقسام، دونالد ترامب، الذي تتحدى شعبيته المتأججة منطق علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد.
أول كارثة شخصية حلت بجو بايدن كانت بعد انتخابه لأول مرة عضوا في مجلس الشيوخ عام 1972، إذ قُتلت زوجته، نيلا، وابنته الطفلة، نعومي، وجُرح ابناه، بو وهنتر، في حادث سير مروع. كانت تلك الحادثة صدمة عميقة لبايدن، الكاثوليكي المتدين، فقرر أن يتخلى عن عضوية مجلس الشيوخ ويتفرغ لرعاية ولديه الراقدين في المستشفى.
رفض بايدن العودة إلى واشنطن لأداء القسم الدستوري، وتولي مقعده في مجلس الشيوخ، وبقي في المستشفى في ولاية ديلاوير، إلى جانب ولديه الجريحين، فآثرت لجنة من مجلس الشيوخ، برئاسة زعيم الغالبية الديمقراطية آنذاك، مايك مانسفيلد، أن تذهب إلى المستشفى لإقناعه بالعدول عن قرار الاستقالة، فاقتنع، وأدى القسم في المستشفى.
الكارثة الشخصية الثانية التي حلت به هي موت ابنه البكر، بو، في منتصف عام 2015. وكان بو، واسمه الحقيقي مطابق لاسم أبيه، متخصصا في القانون ويشغل منصب المدعي العام في ولاية دالاوير، وقد خدم في الجيش الأمريكي في العراق عام 2007، لكنه أصيب بالسرطان، ويقول والده إنه أصيب بالمرض بسبب تعرضه للإشعاعات، وعدَّه أحد شهداء الجيش الأمريكي. كان بايدن دائما يندب فقدان ابنه، وتتدفق دموعه كلما مرَّ ذكره، وعند ترشحه للرئاسة، قال إن المرشح كان يجب أن يكون الابن وليس الأب.
فاز بايدن بالرئاسة، حاصلا على 81 مليون صوت، مقابل 74 مليون صوت لخصمه دونالد ترامب، الذي لم يتقبل الخسارة، إذ اعتبرها إهانة شخصية أن الناخبين لم يمنحوه ثقتهم لولاية ثانية، فظل يردد اتهامه للحزب الديمقراطي بأنه (سرق) الفوز منه، علما أن نائبه، مايك بنس، هو من صدَّق على النتائج، بعد أن رفضت المؤسستان الانتخابية والقضائية، كل طعونه بنزاهة الانتخابات.
كانت طموحات بايدن كبيرة، وكان في عجلة من أمره، ساعيا إلى التخفيف من آثار رئاسة ترامب، فأصدر أوامر تنفيذية رئاسية خلال أسبوعيه الأولين في المكتب البيضاوي، كانت الأكثر عددا منذ عهد الرئيس فراكلين روزفلت، ملغياً قرارات سلفه، ومعيداً الولايات المتحدة إلى الاتفاقيات الدولية التي انسحبت منها في عهده، مثل منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ.
حاول بايدن، وقد نجح جزئيا، أن يعيد الحزب الديمقراطي إلى مبادئه الأولى وطابعه اليساري، الذي حاد عنه في الثمانينات والتسعينيات، بعد 12 عاما من حكم الرئيسين الجمهوريين اليمينيين، رونالد ريغان وجورج بوش، إذ انتقل الحزب من اليسار إلى الوسط في عهد الرئيس بيل كلنتن، ثم عاد قليلا إلى اليسار في عهد باراك أوباما.
لم يعد اليسار محبذا في البلدان الغربية عموما، وأمريكا خصوصا، لكن بايدن يشعر أن هناك حاجة لتوزيع الثروة بعدالة، عبر الانتصار لحقوق الطبقة العاملة وتنشيط الحركة النقابية كي تلبي طموحات العمال، وصار أول رئيس أمريكي في التأريخ، ينضم إلى صفوف العمال المضربين في مشيغان عام 2021. كما حاول أن يجعل الإعانات الحكومية المقدمة للشركات مشروطة بتوظيف أعضاء النقابات، لكن مثل هذا الشرط لا يلائم أمريكا، التي تطور اقتصادها بسبب تحرر سوق العمل من القيود.
اتخذ بايدن إجراءات عديدة لمكافحة الفقر والجوع، وتوفير الأموال اللازمة لرعاية الأطفال والمسنين، وإجراءات أخرى لتنشيط الصناعات الاستراتيجية، خصوصا تلك التي تراجعت في أمريكا، وتقدمت في الصين، مثل صناعة أشباه الموصلات وبطاريات السيارات الكهربائية وإنتاج المعادن النادرة والتقنيات الخضراء الصديقة للبيئة. كما سعى إلى توظيف العاطلين، ووفر مئات الآلاف من الوظائف لهم، فانتعشت سوق العمل وارتفعت الأجور، بوتيرة أعلى من معدل التضخم، إلى درجة أنها كانت تهدد بإبقاء معدل التضخم مرتفعا، لكنه تمكن من خفض التضخم دون أعباء ثقيلة على الاقتصاد.
كان بايدن قد ورث اقتصادا ضعيفا من سلفه ترامب، بسبب جائحة كورونا التي أهملها ترامب، بل استهان بها حتى أصابه الفيروس. استهدفت خطة بايدن قطاع التعليم، وبالتحديد التعليم في مراحله الأولى، إذ شملت تقديم الإعانات لرعاية الأطفال، كي تتمكن الأمهات من العودة إلى سوق العمل مبكرا، والتي وصفتها وزيرة الخزانة، جانَت يلين، بأنها "تجعل الأمريكيين أكثر إنتاجا". كما سعى لإطفاء ديون طلاب الجامعات، ورغم اعتراضات المحكمة العليا، فإنه تمكن من تعويضهم بطرق أخرى.
أما الإعانات لإنعاش الاقتصاد، التي بلغت ترليوني دولار، فقد أحدثت حركة نشيطة في بناء المصانع، إذ تضاعفت الاستثمارات في المنشآت الصناعية إلى درجة غير مسبوقة. ويقول جاريد بيرنستاين، رئيس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض، لمجلة الإيكونوميست، "إن الاستثمارات الخاصة تدفقت في الاتجاه الذي سارت به الحوافز الحكومية"، أي أن الحوافز أحدثت تغييرا إيجابيا في الاقتصاد.
يمكن القول إن النهضة التي أحدثتها الاستثمارات لم تكن بدوافع سياسية، وإنما بدوافع وطنية، والدليل أنها لم تقتصر على الولايات الزرقاء، المؤيدة للديمقراطيين، بل شملت الولايات الحمراء الموالية للحزب الجمهوري، دون الاكتراث إلى الولاء السياسي للمستفيدين، ومعظمهم لن يغيروا ولاءهم على الأرجح، والهدف هو زيادة تماسك الدولة والتخفيف من حدة الانقسام المجتمعي الذي أحدثته رئاسة ترامب.
الإعانات المالية المقدمة للشركات غير محبذة في الاقتصاد الرأسمالي، وهذا التوجه، الذي تسلكه الحكومات اليسارية عادةً، له منافع وقتية مؤكدة، لكنه يضعِف التنافس على الأمد البعيد، لأنه يستقطب الشركات الطامعة في الإعانات، وليس التي تسعى إلى تحقيق الأرباح عبر الحسابات الدقيقة للتكاليف. مع ذلك، فإن السياسات التحفيزية ضرورية في أوقات الكساد والأزمات، لأنها تقدم دعما للشركات والمؤسسات المتضررة، التي لا تستطيع الصمود، فتبقيها عاملة حتى تتغير الظروف الاقتصادية لصالحها.
التوجه الاقتصادي الذي يتبناه بايدن أغضب حلفاء الولايات المتحدة ومنافسيها، لأنه يُخِل بمبدأ التنافس المتكافئ، إذ يجعل المنتجات المتولدة عبر الإعانات الحكومية أقل كلفة من نظيراتها المنتجة بكلفة كاملة. منظمة التجارة العالمية وضعت ضوابط تقيد الإعانات، بهدف إزالة التشوهات وتشجيع التنافس.
ومن العقبات التي عرقلت رئاسة بايدن هي غزو روسيا لأوكرانيا، الذي تسبب في رفع أسعار الطاقة ومعدلات التضخم عالميا، واضطر أمريكا لإنفاق مبالغ طائلة لتمكين أوكرانيا من التصدي لروسيا. والنكبة الأخيرة هي الفشل في إيقاف الحرب في غزة، بسبب إصرار حكومة نتنياهو على مواصلتها، رغم الخسائر الفادحة في صفوف المدنيين الفلسطينيين، والأضرار التي تكبدتها أمريكا في سمعتها وعلاقاتها الدولية. لابد من الإشارة إلى أن موقف إدارة بايدن تغير لصالح القضية الفلسطينية، لكنه لم يرتقِ للموقف اللائق بدولة عظمى، قادرة على إحداث التغيير المنشود.
الأزمتان قد تقودان إلى تداعيات خطيرة يمكن أن تعرقل فوز بايدن في الانتخابات. الأزمة الأوكرانية، مثلا، بدأت تؤثر على آراء الناخبين، فكثيرون منهم لا يرغبون بأن تُنفَق أموالُهم على المساعدات الخارجية، بينما يؤثر موقف إدارة بايدن من الحرب في غزة سلبا على شعبيته بين الناخبين اللبراليين والعرب والمسلمين.
شعار بايدن للانتخابات المقبلة، (يمكننا إكمال المَهمة)، يبدو متواضعا، وكأنه يحاول درء الاتهامات المتزايدة بأنه غير قادر على الاضطلاع بأعباء منصبه بسبب تقدمه في السن وضعف ذاكرته، وقد يكون هذا هو العائق الوحيد الذي يمكن أن يربك حظوظه في الفوز بولاية ثانية.
لكن الحزب الجمهوري هو الآخر في مأزق، فمرشحه المحتمل للرئاسة، دونالد ترامب، مسن أيضا، ويواجه عوائق قانونية وسياسية، ولا يتفوق على بايدن في قوة الذاكرة، إذ بدأت تظهر عليه علامات النسيان وضعف الذاكرة، وبدأ ينسى الأسماء والأماكن ويطلق معلومات خاطئة وملتبسة.
إن سمّى الحزب الجمهوري ترامب مرشحا له، فإن المرجح أن بايدن سينتصر عليه، لأنه كان قد هزمه سابقا، ولأن خطاب ترامب، الذي أوصله إلى البيت الأبيض عام 2016، لم يعد مقنعا في 2024، ولأن بايدن قد حقق إنجازات ملموسة في السنوات الأربع الماضية، لا شك أنها ستنعكس في صناديق الاقتراع.
هل سيؤثر تقدم بايدن في السن على أدائه؟ نعم، ولكن ليس بالقدر الذي يروج له خصومه. أولا لأن بايدن لا يحكم بمفرده، كما يفعل ترامب، بل يعتمد على المستشارين، وثانيا إن صارت صحته عائقا، فإن نائبه سيحل محله. ومن هنا برزت الحاجة إلى نائب قدير يمكنه أن يضطلع بأعباء الحكم. بايدن مازال متمسكا بنائبته الحالية، كمالا هاريس، لكن الأصوات تتعالى بضرورة استبدالها بمرشح ذي قدرة ونشاط أكبر وكاريزما أقوى، كي يقنع الناخبين بأن التصويت لبايدن سيأتي بحكومة قوية، يقودها فريق حكومي نشيط وذو خبرة، وليس رئيسا مسنا واهن القوى.