لم يكن اعتباطيا اتهام محور الممانعة للولايات المتحدة بأنها المسؤول الأول، وليس الداعم فقط لإسرائيل في حربها على قطاع غزة ردا على عملية "طوفان الأقصى".

فتعاقب الأحداث وتطورها يوضح يوما بعد يوم أن رأس المحور، ربما جهز هذا الاتهام حتى قبل قيام حركة "حماس" بالعملية، ولأهداف تتجاوز القضية الفلسطينية بحد ذاتها إلى ما هو أبعد.

ولهذه الغاية، جهز رأس المحور الجبهات الملحقة بقطاع غزة وتولى مهمة ضبط إيقاع ساحاتها بدقة وحنكة، لذا جاء شعار "مشاغلة" إسرائيل على حدودها الشمالية في جنوب لبنان الذي رفعه "حزب الله"، ودفع مسؤولين أميركيين وأوروبيين إلى التحرك والمطالبة بتنفيذ القرار 1701، وطرح أيضا أفكارا تتعلق بتسوية النزاع على نقاط حدودية بين لبنان وإسرائيل.

إلا أن الاستفزاز المباشر ومن دون مواربة للإدارة الأميركية، ودفعها إلى الالتفات نحو إيران بغية إعادة فتح ملف المفاوضات معها بشأن ملفها النووي ونفوذها في المنطقة، ترجمته بضربات عسكرية تحمل توقيع الميلشيات العراقية على قوات أميركية، وكذلك تهديد الملاحة البحرية من باب المندب إلى قناة السويس التي تكاد تصبح عاطلة عن العمل، مع صواريخ الحوثيين.

وكأن إيران، ومن خلال تحريك جبهات ساحتها بما يعود عليها بالمردود اللازم، تراهن على أن الإدارة الأميركية المنغمسة بالكامل في همومها الانتخابية، لن تُقْدِم على أي مغامرات عسكرية كبيرة وواسعة تشغلها عن أولوياتها المتمحورة بعودة الرئيس الحالي جو بايدن إلى البيت الأبيض، ما يعني أنها لن تدخل حروبا مفتوحة لتغيير معادلات النفوذ في منطقة الشرق الأوسط.

وكان المحور الممانع قد راهن مع انطلاق "حرب غزة" بفعل عملية "طوفان الأقصى" على أن اهتمامات الولايات المتحدة لم تعد شرق أوسطية، وانما أبعد من ذلك، وتحديدا على الجبهة الصينية. ولهذا السبب رتبت انسحابات جزئية من المنطقة بالتدريج لتقلص وجودها العسكري.

إلا أن التطورات الأخيرة، بينت أن هذه الإدارة المشغولة بهمومها واستحقاقاتها لن تتواني عن توجيه الضربات التي تتناسب مع بنك أهدافها. لذا شهدت المنطقة نشاطا عسكريا أميركيا واسعا للرد على الجماعات المدعومة من إيران، في سوريا والعراق، مع إبقاء باب التخمين مفتوحا بشأن شن ضربات داخل إيران.  وكذلك شنت القوات الأميركية والبريطانية موجة ثالثة من الغارات الجوية ضد الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن.

وبالتزامن، باشرت واشنطن بحثا بمستوى عال للتوصل إلى حلول بشأن حرب غزة، وكذلك بشأن تنفيذ القرار 1701 في لبنان.  

 ومن يتابع التصريحات التي يحملها ممثلو المجتمع الدولي عن ضرورة وأولوية حل الدولتين، ومنح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة، بالإضافة إلى فتح ملف التفاوض لوقف إطلاق النار في غزة وحركة الموفدين إلى المنطقة باتجاه لبنان، لا بد وأن يربط بين تصعيد إيران عبر أذرعها ضد الأميركيين، أكثر مما هو ضد الإسرائيليين الذين يوجهون ليها ضربات نوعية وموجعة من خلال الاغتيالات، وأن يلاحظ أن مصلحة إيران لا تتوافق مع ما يطرحه الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون ومعهم قطر ومصر بشأن القضية الفلسطينية وتنفيذ القرار 1701.

لذا كان الرهان المقرون بتحريك الأذرع لتطاول القواعد العسكرية الأميركية، وصولا إلى الأردن، وتفعيل الجبهات الجانبية وتنشيطها لصرف النظر عن الجبهة الأم والقضية الأم، التي أذا ما وجدت طريقها لحل عادل يعيد التوازن إلى منطقة الشرق الأوسط، تسلب إيران ورقة قوتها وتنهي استفراد أذرعها وميليشياتها بقرارات الحرب والسلك وتخريب الدول حيث تسيطر.

لكن مثل هذا الرهان قد لا يصيب. والأرجح أنه لن يصيب بالشكل والمستوى الذي يروم إليه رأس المحور الإيراني لتحقيق بنك أهدافه، من خلال الاستفزاز عبر ساحات ميلشياته، وإرغام الولايات المتحدة على الذهاب إلى طاولة مفاوضات والاضطرار إلى القيام ببعض التنازلات وتلبية الشروط الإيرانية.

فالانتخابات الرئاسية لن تلغي بالضرورة، التحركات الأميركية اللازمة لحفظ نفوذها في المنطقة. والعكس يصح، إذ أن هذه الضربات تصبح مفيدة ولازمة لدعم عودة بايدن "القوي" إلى البيت الأبيض.