كان من أقدم مخططات تهجير الفلسطينيين من غزة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية ما تم بحثه عام 1956 أثناء العدوان الثلاثي على مصر وقبل انسحاب إسرائيل من الأراضي المصرية، حين درست الحكومة البريطانية خططا ومشاريع عدة شملت دمج جزء من سيناء، وقطاع غزة، وجزيرتي تيران وصنافير، وجزء من الأردن لإنشاء منطقة عازلة بين مصر وإسرائيل.
وكان من بين المشروعات المطروحة آنذاك مشروعا باسم "خطة سيناء"، اقترحتها على الحكومة البريطانية إليزابيث مونوريو، رئيسة قسم الشرق الأوسط في مؤسسة الإيكونوميست في ديسمبر عام 1956، والتي تحدثنا عنها تفصيلا في المقالات الأربع السابقة.
وفي دفاعها عن خطتها وضغطها لسرعة تنفيذها، عبرت مونوريو عن اعتقادها بأن "الفرصة ربما لا تتوفر مرة أخرى بدون حدوث انفجار آخر، ربما يكون أكبر بدرجة لا يمكن التعامل معه بالطريقة الممكنة الآن"، وهو الانفجار الذي حدث بالفعل وبدرجة أكبر في حرب عام 1967 والتي مثلت محطة تالية مواتية ومثالية لتنفيذ مخطط تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وإطلاق بعض المشاريع المعنية بذلك، ومن بينها المشروع الذي طرحه ريتشارد وود، عضو البرلمان البريطاني في العام التالي للحرب وأسماه "خطة لإدارة شبه جزيرة سيناء وتنميتها".
بدت خطة "وود"، الذي شغل لاحقا منصب وزير التنمية الدولية، أكثر تفصيلا، حيث أرفق خريطة مقترحة لتنفيذ مشروعه، في بداية طرحه، قال وود إنه لتأسيس سلام دائم في منطقة الشرق الأوسط بين مصر وإسرائيل، فإنه من المهم إنشاء منطقة عازلة بين البلدين تمتد من البحر المتوسط إلى خليج العقبة، ومن قناة السويس إلى حدود سيناء مع إسرائيل، يتراوح عرضها بين 30 إلى 90 كيلومترا، وطولها بين 100 إلى 150 كيلومترا، وتصل الكثافة السكانية فيها إلى 90 شخصا في الكيلومتر الواحد. وفي حال إنشاء هذه المنطقة فإن "قطاع غزة سوف يختفي في إسرائيل" حسب تعبير "وود".
الملفت والمتكرر هنا هو أن الأسباب التي توهمت "مونوريو" أنها ستجعل مصر توافق على خطتها هي نفس الأسباب والظروف ساقها "وود" لتمرير الجانب المصري لخطته والموافقة عليها، وهي نفس الأسباب التي يروج لها أصحاب المشروع الحالي بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء، وهي حاجة مصر إلى المال وأزمتها الاقتصادية التي ستدفعها كما يرى هؤلاء في الماضي والحاضر إلى قبول هذه الصفقة المشبوهة والملوثة بدماء الفلسطينيين، حيث راهنت مونوريو وقتها على حاجة مصر إلى المال في مشروعات التنمية. وهو نفس المنطق الذي راهن عليه أصحاب المشروع الحالي لتمرير مشروعهم رغم مرور نحو نصف قرن من المشروع الأول، وهو نفس ما ذهب إليه "وود" حين تطرق إلى كيفية إقامة هذه المنطقة العازلة، مقترحا أن تشكل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة اتحاد شركات ورجال أعمال "كونسورتيوم" لشراء الأراضي، ثم تنشأ وكالة تتولى تنمية المنطقة. ويدفع هذا الكونسورتيوم لمصر 300 مليون جنيه استرليني لمساعدتها في تجاوز الأزمة الاقتصادية التي خلفتها الحرب، تحت رقابة خبراء من الأمم المتحدة، على أن يدفع هذا المبلغ على مدار 20 عاما، أما عن إدارة المنطقة فاقترحت الخطة أن يمارس الأمين العام للأمم المتحدة مهام الإدارة عبر وكالة غير هادفة للربح ينشئها الكونسورتيوم الذي سيقوم بشراء الأرض، على أن تقوم بتسديد الأموال للدول المشاركة في الكونسورتيوم، وتحيل أي أموال متراكمة لاحقا إلى الأمم المتحدة، على أن توفر الأمم المتحدة للوكالة الخبراء وتدرب السكان العرب المحليين في أنحاء المنطقة، بهدف تحقيق الأهداف التالية: إنشاء 3 محطات طاقة نووية في العريش (على البحر المتوسط شمال شرقي سيناء) ونخل (وسط سيناء) وشرم الشيخ على خليج العقبة، تنفيذ مشروعات حيوية للري، زراعة المحاصيل والفواكه، التنقيب عن البترول، تحلية المياه، تنفيذ حملة تشجير، بناء مساكن ومشروعات أعمال في أجزاء مختارة من المنطقة.
وكما اقترحت خطة "مونوريو" فكرة إنشاء قناة ثانية بديلة لقناة السويس بهدف "تخفيض السلوك الاحتكاري لقناة السويس"، أعطت خطة "وود" أهمية خاصة لإنشاء قناة جديدة بطول 75 كيلومترا تمتد من العريش، إلى جلعات، الواقعة غربي صحراء النقب جنوبي إسرائيل، على أن تستمر مصر في تحصيل رسوم المرور من قناة السويس "طالما أنها تسيطر على القناة وفقا لترتيبات مع الأمم المتحدة".
أما عن كيفية إدارة الأمن في هذه المنطقة فاقترح "وود" أن تكون آداه السيطرة قوة شرطية تابعة للأمم المتحدة تمارس مهامها المكلفة بها لمدة 10 سنوات على الأقل، وتخضع بعدها لمراجعة الأمم المتحدة وتكون مهمتها الرئيسية منع مرور أي أسلحة عبر المنطقة العازلة أو إليها، على أن تمارس مهامها في أربع قطاعات: الأول عرضه 10 كيلومترات على جانبي الحدود بين النقب في إسرائيل وسيناء، والثاني يشمل الجانب الغربي من خليج العقبة، من جلعات في إسرائيل إلى شرم الشيخ، ويشمل هذا منطقة بمساحة 10 كيلومترات حول مدينة العقبة، والثالث منطقة بعرض 10 كيلومترات على ضفتي القناة المقترحة التي تربط بين جلعات والعريش، والقطاع الرابع يشمل منطقة بعرض 10 كيلومترات على ضفتي قناة السويس، على أن تكون قوة الشرطة الأممية في هذا القطاع مستعدة لممارسة السيطرة الكاملة على القناة في حالة وقوع أعمال عدائية لضمان حرية مرور سفن كل الدول عبر قناة السويس.
وثائق الخارجية البريطانية التي كشف عنها مؤخرا وعرضتها هيئة الإذاعة البريطانية قالت إن الحكومة البريطانية درست هذه الخطة المقترحة بعناية كبيرة لكنها شككت في استعداد مصر التخلي عن سيادتها على سيناء، أو حتى استعدادها للسماح بأن يوضع قطاع غزة تحت سيطرة وكالة دولية، ناهيك عن سيطرة إسرائيل، لكن هذا التحفظ من قبل وزارة الخارجية البريطانية لم يغلق الباب أمام مشاريع بديلة مشابهة حيث أكدت أن تحفظها لا يعني عدم اهتمامها بخطط للتعامل مع المستقبل السياسي والاقتصادي لهذه المنطقة التي هي مسرح لعمليات عسكرية، على حد وصفها، لذا كانت منفتحة بعدها على طرح رجل أعمال بريطاني يدعى "بي إس ليتي"، لمشروع جديد يستهدف إنشاء منطقة سماها "يونو آربيا" ناصحا بأنه "ينبغي أن تقدم الدبلوماسية البريطانية أكبر مساهمة في التوصل إلى حل" للصراع في الشرق الأوسط"، وهذا حديث المقال المقبل.