تنتمي إشكالية الذكاء الاصطناعي -بما تضمره من أبعادٍ تتعلق بالعلم والبحث العلمي وبالاستخدامات الاجتماعية لأنظمة الذكاء تلك وما قد يتولد من تلك الاستخدامات من نتائجَ غيرِ مرغوبة - إلى جملة الإشكاليات التي تدور على ثنائية الحرية/الضرورة وثنائية الحق/الواجب؛ فلقد لا يَخرج بحثها كإشكاليةٍ عن هذا النطاق حتى وإن جربنا تقليبها على وجوه أخرى تبدو فيها (الإشكالية) بعيدة عن مفردات الفلسفة أو نظامها المفهومي.

والحقّ أنّ الذّكاء الاصطناعيّ، من حيث هو ذكاءٌ مرجعُه إلى العِلم الذي أفضى إليه، لا يَطْرَح مشكلةً بذاته، إنّما تبدأ المشكلة حينما يغادِر حقلَ العِلم ليَلِجَ حقْلَ الاجتماع الإنسانيّ فيفرض على المجتمع والنّاس أحكامَ المختبرات العلميّة، وهكذا تَشْرَع المشكلات في التّوالد والتّناسُل من الصِّدام بين بيئتيْن قد لا تتوافقان: بيئة العلم وبيئة المجتمع أو البيئة الإنسانيّة. على هذه المقدّمات سنبني بعض الاستنتاجات حول هذه "النّازلة".

إذا لم يكنِ الذّكاءُ الاصطناعيُّ، في حدّ ذاته، مشكلةً؛ أعني بوصفه منتوجاً علميّاً، تَرَتَّبَ عن ذلك القولُ بوجوبِ التّسليمِ ب حريّة العلم والبحث العلميّ في إنتاج ما يَسَعُ طاقةَ العِلم إنتاجُه: ذكاءً اصطناعيّاً أو ما شاكل، من غيرِ قيودٍ على العلمِ ولا كوابحَ على العلماء؛ إذْ هي في جملةِ حريّة التّفكير وحريّة البحث بحسبانها منتميةً إلى منظومة الحريّات في الدّولة الوطنيّة الحديثة. لذلك لا مجال أمام رفض الذّكاء الاصطناعيّ، من حيث هو ثمرةُ البحث العلميّ، لِمَا في مثل ذلك الرّفض من تناقُضٍ حَدِّيّ مع مبدإ حريّة الفكر... وحريّة الفرد في النّظام الاجتماعيّ- السّياسيّ الحديث.

إنْ شئنا بعضَ الإفاضة والتّنفيل في المسألة قلنا إنّ حريّة العِلم والبحث العلميّ تقع من الفرد ومن الاجتماع الإنسانيّ موقعَ الحقّ المدنيّ الذي يُخَوِّله القانون في الدّولة الحديثة، أو تُحيطُه الأخيرةُ بالضّمانات القانونيّة في وجْهِ أيّ خَرْقٍ أو تَجاوُز. لا مجال، إذن، للحَجْر على حقٍّ عامّ مُصان، أي تصونُه القوانين؛ إذْ ما الذي يَمْنَع انتهاكَه أن يصير مقدّمةً أو مَعْبَراً لانتهاكِ حقوقٍ مدنيّة وسياسيّة أخرى؟! وعليه، يحقّ للعلماء أن ينغمسوا في بحوثهم العلميّة الدّائرة على مسألة الذّكاء الاصطناعيّ وعلى سواهُ من مسائل العِلم الأخرى، من غيرِ تثريبٍ عليهم، طالما ظلّ عملهم العلميّ دائراً في نطاق ما ضَمِنَهُ القانون من حقوق.

ولكن، في مقابِل الحريّة والحقّ، ينتصب كلٌّ من الضّرورة والواجب؛ وهُما - مثل الأوّليْن - لحظةٌ من الوجود الاجتماعيّ موضوعيّةٌ وديناميّةٌ فيه دافعةٌ، مثلما أنّ القوانين في الدّولة الحديثة تَلْحظُهما وتستدخل موجباتهما في النّظام القانونيّ نظراً إلى اتِّصال احترام أحكامهما باحترام أحكام المصلحة العامّة: وهي رائزُ سياسات الدّولة الحديثة. إنّ المعادلة بين الحريّة والضّرورة، هنا، دقيقة وتُوزَن - في الدّولة والنّظام الحديث - بميزان واحد هو ميزان تلك المصلحة العامّة بما هي عقيدةُ السّياسة والدّولة والإطارُ المرجعيّ الذي عليه مَبْنَى السّياسات العامّة. وهي إذا كانت تضع في كفّتي الميزان حريّات الأفراد في البحث، من جهة، ومصالحَ المجتمع، التي ينبغي أن تستفيد من نتائج ذلك البحث لا أن تتضرّر منها، من جهةٍ أخرى، فهي تضع في كفّتيْه الحقَّ والواجب أيضاً؛ حيث معادلتُهما منتظمةٌ في جدليّةٍ لا يقوم المجتمعُ السّياسيّ والمدنيّ الحديث إلاّ على مِدْماكِ توازنِ حدَّيْها. وعليه، إذا كانت حريّة البحث العلميّ مكفولةً، بل مقدّسة ينبغي أن لا يُنال منها، فهي - شأنها في هذا شأن سائر الحريّات - مجعولةٌ لخدمة المصلحة العامّة ومنتظمةٌ تحت سقفها لا تتجاوزُها أو تعتدي عليها؛ والحالُ إنّ في الاستخدامات العامّة للذّكاء الاصطناعيّ ما يعتدي على المصلحة العامّة: على العمل وعلى الطّاقات الإنسانيّة، بل على الإنسان. بعبارةٍ أخرى؛ على هذا الحقّ في البحث العلميّ والاستفادة منه أن لا يكون مطلقاً، بل أن يتقيّد بواجب عامّ نحو الجماعة الوطنيّة والأمّة: عدم الإضرار بمصالحها.

ما الذي تعنيه هذه الواقعة مثلاً: الإنسان حرٌّ، مطلقَ الحريّة، في أن يفكّر كيف يشاء، لكنّه ليس حرّاً - مطلق الحريّة - في أن يقول دائماً كلَّ ما يفكّر فيه أو في أن يفْعل دائماً كلّ ما يحلو له أن يفعله. إنّ حريّته، هنا، نسبيّة لأنّه كائن اجتماعيّ يعيش داخل جماعة (مجتمع) وليس فرداً منعزلاً. وعليه، فإنّ حريّته لا تمتدّ إلى حيث تصيب غيره بالأذى فتتحوّل - عندئذٍ - من حريّةٍ إلى عدوان؛ وحقَّه لا يمتدّ إلى حيث المساسُ بحقوق الآخرين، بل عليه واجبُ احترام حقوقهم كي يُحْتَرَم حقُّه فتعترف له الدّولةُ والقوانينُ به. كذلك الشّأن في الذّكاء الاصطناعيّ؛ لا جدال في أنّه حقٌّ من حقوق العلماء وشكلٌ من حريّة التّفكير والبحث، غير أنّ الحريّة في استخدامه (في الخروج به من حقل العلم إلى حقل المجتمع) مقيَّدَةٌ بما تقضي به المصلحةُ العامّة: مصلحةُ المجتمع رُمّةً لا المصلحةُ الخاصّة لفردٍ أو فئةٍ أو طبقةٍ اجتماعيّة منفردة؛ أو قُل إنّ الحقّ في استخدامه ليس مطلقاً، بل هو مقيّدٌ بواجب احترام تلك المصلحة وعدم النّيل منها.

مشكلةُ الذّكاء الاصطناعيّ ليست تَكْمَن، إذن، فيه هو من حيث هو منتوجٌ علميّ اهتدى إليه العلماء، بل هي تَكْمَن في اجتماعيّاته؛ أعني في صيرورته منتوجاً اجتماعيّاً مستخْدَماً ومعروضاً للاستهلاك العامّ. السّياسات التي توجِهه هذه الوجهة من الاستخدام العامّ هي التي ينبغي أن تكون موضِعَ نقدٍ واعتراضٍ.. واحتجاج.