استكمالا للأسئلة المشروعة التي يستمر المرء بطرحها، ما مدى هامش الحرية الذي يؤمن به هذا العالم؟
وهل فعلا الحناجر والأيادي مكبلة بجنازير وسلاسل أم أن أحيانا الإنسان يقيد نفسه بنفسه بمخاوفه وأفكاره؟
وهل يشعر الإنسان بالكسل أو الخوف للتحلي بالجرأة وكسر المصفوفة؟ أم يشعر بالعجز مثلا من فشل المحاولة في الالتفاف على القيود؟
هل عالم 2024، الذي يُقدم نفسه عالما تكنولوجيا رقميا معولما متطورا، يقدم مساحة كافية لطرح أفكار وأحلاف وأحزاب جديدة تخدم تطلعات الأجيال الجديدة في أساليب عيشها، وأحلامها، وحقها في تقرير مصيرها سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا، ثقافيا وفكريا؟
أم ما زلنا في مرحلة اختيار طرف، حزب، حلف، رأي ما وإلا سيقف الإنسان على هامش الحياة وحيدا ويتم استبعاده من الميدان
هل هناك مساحة كافية تحترم إنسانية العقل وقابليته للتطور، والسماح بولادة أي أفكار ونهج إبداعي جديد؟
في المبدأ، من المفترض هناك مساحة كافية لطرح الأفكار والآراء، أي طرح الأسئلة أمر مشروع وطبيعي في الحياة ولا يهدد وجود أي طرف.
لكن هل تتفق النخب معي في ذلك؟ وهل كل مسيطر على مقاليد الحكم في "العالم الجديد" يؤمن بالتعددية والتنوع والحريات؟
أن تتحادث العقول فيما بينها، أمر مثمر ومقبول إنسانيا، فـلا يجوز للإنسان أن يكبل ذاته بأوهام وسلاسل لا وجود لها أو يسمح للآخرين بتكبيله وتنكيل عقله، أليس كذلك؟
لكن لا يبدو أن هامش حرية الفكر والرأي والتعبير مطلق في العالم الذي نعيشه اليوم أو كبير بما يكفي.
بل على العكس، في عام 2024، حيث من المفترض أن المجتمعات أكثر تحضرا، نجد الاختلاف في الآراء ما زال يُترجم بالعنف، الغضب والسخط، الحروب والإبادة.
للأسف، حتى في الدول التي تدعي أنها عرّابة الحريات والديمقراطيات والقيم المتحضرة، نجد الشواهد كثيرة لتكبيل الأصوات أو تشويهها، أو سوء استخدامها أو تطويعها بحسب المصالح والسياق وماهية الأطراف التي تعبر عن نفسها ومضمون السرد والحوار.
ما يعني، لا يمكن أن نقول في هذا العالم لا يوجد معايير مزدوجة. يوجد طبعا.
لا يمكن أن نقول لا يوجد تضييق للحريات، من المشرق حتى المغرب. يوجد أيضا، مع اختلاف نسب وأسلوب التعامل مع التباين والتباعد الفكري والقيمي.
سنجد أنه يتم التلاعب في استخدام القوانين ضد فئات معينة، فيما يتم استخدامها لمنح حريات ومساحة أكبر لفئات أخرى، مثلا.
رأينا في حرب غزة، ردود فعل أوروبية أميركية في محاولات لتكبيل الآراء، وتقييد بعض منصات التواصل الاجتماعي للمحتوى بحسب المضمون.
منطقيا، أن لا تسمح للناس حتى في الاحتفاء بإنسانيتهم، والتعبيرعن ألمهم، وتعاطفهم حتى الإنساني، هذا يُعتبر "قمعا" للحريات وللأخلاقيات.
وهذا يقودنا للسؤال الأهم، لماذا نجد غيابا للرأي المعتدل والوسطية؟
أين العُقلاء؟ أين الحكمة في إدارة الأمور خصوصا في عالم نجد فيه تصاعدا للحروب والصراعات والعنف بدلا من الحوار والتطور والازدهار؟
اليوم، مع تزايد التهديدات الاقتصادية، الأمنية، السياسية، الثقافية والاجتماعية والصحية والمُناخية في العالم، أو بالأحرى..
مع تزايد وهم التهديدات التي يحاول "العالم الجديد" تعزيزها وغرسها في برمجة المجتمعات والأفراد، تجد العالم يبدأ بالعودة إلى "المجموعات الصغيرة" بشكل قاسي وعنيف ومتطرف في السنوات الأخيرة.
يقسم نفسه ومصالحه وأفكاره وإيمانياته على اعتبارات عنصرية، متطرفة، تمييزية وكأن كل فئة تريد أن تمنح نفسها الأفضلية والأولوية والأهمية والفوقية في الوجود والحياة والحقوق والحريات على حساب الآخر،
وعلى اعتبارات "الأنا أو الإيغو" الذي بات يحكم الدول والأفراد.
والآخر حقيقة هو جزء من هذا العالم المتكامل، الآخر لايختلف كثيرا، قد يختلف في الشكل أو اللون مثلا، الثقافة، الدين، الإيمانيات، الأفكار، البقعة الجغرافية التي ينتمي لها، ما يُسمى "الوطن" في النظام البشري، أو حتى الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي ينتمي له الشخص.
لكن، في الحقيقة المُجردة من كل الأوهام البشرية التي تم صُنعها، كل ذلك مجرد معطيات واعتبارات وُجدت بسبب لعبة نرد، ضربة حظ بالأحرى، تحدد للأشخاص ماهيتهم وملامحهم، وهيئاتهم، وخياراتهم في هذا العالم.
وإن حاول الإنسان السباحة في فُلك الخيال لدقيقة، في سيناريوهات أخرى، وفي احتمالات أخرى، كان من الممكن أن يكون كل شخص مكان الآخر.
فحقيقة الحظ، وحده من يحدد في طبيعة الحال قدر الإنسان وخياراته وواقعه.
إذا نعود لكيف تفكر المجتمعات اليوم، لماذا هذا التطرف المتزايد في العالم ؟
لماذا قمع الحريات وانكماشها المتزايد في عصر من المفترض أنه عصر المعرفة والعلم والتكنولوجيا والتطور.
من المفترض أن الإنسان يعيش في عصر أكثر حضارة، أكثر احتراما لنفسه وقيمه.
لماذا يبدو أن النظام العالمي الجديد يستثمر في الكره، هذا العالم الجديد، هش ومدّعي، يرتدي عبائة الرفاهية والتطور التي تغطي في مضمونها الكثير والكثير من التهالك الثقافي والعنف والتطرف والهشاشة والأفكار الظلامية والحقد في جوفه.
على هذا العالم في نقطة ما، أن يُعيد التفكير بنهجه، أن يُبرمج ذاته على فكر وعقلية أقل تطرفا وسوداوية.
لا بأس في العودة للمحاولة بإحلال العدالة، لا بأس في منح الجميع فرصة للتعبير عن أنفسهم، هناك مساحة كافية للجميع، أن يعيش الجميع، أن يُفكر الجميع، أن يتم الاستثمار في فكر وثقافة وحكمة وخبرة الجميع لأجل مستقبل أفضل للأجيال القادمة حيث سلام أكثر، أقل نزيف بشري وأقل وحشية.
ربما حينها سنجد صيغة جديدة أفضل لم نعهدها من قبل لمجتمعاتنا البشرية أكثر حكمة ووسطية.