في تلك المرحلة من المخاض الاستقلالي، كان الجنرال ديغول صادقاً مع نفسه، وهو الذي ذاق مرارة غياب الحرية في وطنه، الذي خنقت فيه النازية أنفاس الحرية، فاستجار بالمستعمرات، لأن درس الاحتلال النازي لبلده علّمه ما معنى أن يفقد الإنسان الحرية، فبادر إلى عمل ما من شأنه أن يهوّن الوطأة على أهل المستعمرات، التي أجارته سنوات المنفى، لتكون له وطناً، بديلاً للوطن المفقود، وساعداً أيمن في التحرير الموعود.
وها هو يبعث برُسُلٍ إلى زعماء سلطنات الصحراء في آزجر، وآهجّار، وآير، وآضاغ، أو آزواد حالياً، يقترح فيها لمّ شمل شتاتهم في دولة، ولكنهم أساءوا به الظنّ، لأن ما لم يخطر لهم على بال هو أن يسعى عدوّ الأمس، لأن يغدو فجأة صديق اليوم، فرفضوا المخطط. ويُروَى أن الشيخ "كوري" زعيم آزجر آنذاك خاطب محفل القوم، المكلّف باستقبال رسول ديغول، الجنرال "فريمو"، قائلاً: "أحسنوا استضافة الرسول، وعبّروا له على امتناننا على حسن الظنّ، حتّى إذا ذهب فكلٌّ منكم حُرٌّ في أن يذهب ليرضع حليب أمّه!". أمّا موقف "آخَموك"، زعيم آهجّار، فلم يختلف أيضاً في المضمون عن موقف زعيم "آزجر" عندما خاطب الرسول قائلاً: "وجودنا في دولة سوف يعني بالنسبة لنا استخراج لشهادة الوفاة! وإذا كنتم حقّاً تنوون أن تكفّروا عن خطاياكم في حقّنا، وتريدون بنا خيراً، فليس لكم إلّا أن تخرجوا من أراضينا؛ أمّا بشأن نوايا سكّان السواحل، الذين تدّعون أنّهم يريدون بنا شرّاً حال خروجكم، فاعلموا أنّهم أشقّاء لنا، وسوف نجد معهم لغةً مشتركة حال خروجكم!".
ولكن ما غاب عن زعماء الأمّة الصحراوية آنذاك هو عدم وجود بديل للدولة، في زمنٍ تنكّر لكل ما متّ للماضي بصلة، لتغدو الدولة في واقعه الحداثي هي: المعبود! فمن أين لهم أن يعلموا أن عالم ما قبل الغزو الاستيطاني الأجنبي زال إلى الأبد، ومن الآن فصاعداً، فإن الاعتراف بالدولة، والقبول بقدر الحياة داخل قفص هذا البعبع، هو اللعنة التي لابدّ منها، فإن أصرّوا على رفض دولتهم، فليس لهم إلّا أن يقبلوا ذلّ أن يحيوا تحت سقف دولة أغراب! دولة أغراب بكل المفاهيم، لأنها، في معجم الحقيقة، احتلال. احتلالٌ حتى لو تخفّت وراء قناع الاستقلال! وهو ما برهنت عليه التجربة فيما بعد، اي عندما أحاطت بالحزام الصحراوي الأبيّ كيانات مختلقة، وملفّقة من طينة الدخيل الأجنبي، في الشمال وفي الجنوب، لتبدأ مرحلة الاحتلال الحقيقي للصحراء، والأبشع في تاريخها على الإطلاق، مترجمةً في حرف تلك الأشباح المشوّهة، المصابة بداء المسّ الأيديولوجي، فلا تعترف بهيمنة الدولة إلّا في هويّتها كطغيان. وها هو السفاح "موديبوكيتا" يتبوّأ عرش مملكة مالي، التي قوَّم قيام قوامها أهل اللثام أنفسهم، بزعامة يوسف بن تاشفّين مؤسس إمبراطورية المرابطين يوماً، ليبدأ حملة إبادة جماعية في حقّ أخلاف هذا المصلح الديني الرائد، ليهرع لمباركة همجيّته بهلوان في الشمال هو "بن بلّة"، الذي اعتقل زعماء قبائل الأمّة المنكوبة، الذين استجاروا به، فإذا به يقترف في حقّهم جريمة تاريخية، عندما أمر بتسليمهم للسفّاح "كيتا"، الذي حكم عليهم بالإعدام، الذي كان سيوضع موضع التنفيذ، لولا تدخّل زعيم آخر، إنسانيّ النزعة، برغم سطوة الانتماء الأيديولوجي، هو "جمال عبد الناصر"، فكيف يبقى الموقف من ظاهرة "الدولة" سجين الضرورة في عقليّة الجيل، بوصفه حاجة وجوديّة محسومة، إذا كانت أمم الرحيل مازالت على يقينها بوجوب تزكية الروح النقدية في العلاقة مع الوجود، بما يضمن حقّ الطعن في كل ما ننتدبه في وجودنا كمسَلَّمة، لأن شمس الحقيقة لا تسطع إلّا في واقعٍ يعترف بضرورة التشكيك في المسَلَّمات، لأن حرية الأبعاد القصوى، التي يتعاطاها إنسان الصحراء، هي التي تغنّت بحكمة الوصيّة القائلة: "ضع قدمك داخل أسوار العمران، ولكن أحرص أن تُبقي على الرأس خارجاً!". ماذا يعني أن يبيح إنسان الخلاء لنفسه بأن يطأ سجون العمران؟ هذا يعني أن من حقّه أن يرتادها لقضاء حاجة، لمقايضة بضاعة، أو لعقد صفقةٍ نفعية، ولكن ليس له أن يسمح لنفسه بالمبيت داخل سقوف العمران، لأن المبيت هنا يعني الاستسلام لإغواء الاسترخاء. والاسترخاء طُعمٌ لأفيونٍ مُميتٍ هو التّرف. لأن بالترف يموت الضمير، واغتراب الروح، رهين موت الضمير!
فهل توقّف نزيف الروح، في تجربة أبرياء الصحراء، عند هذا الحدّ؟
كلّا بالطبع! فالمؤدلجون يأبون إلّا أن يورّثوا أخلافهم، ما اقترفوه كأسلاف، من آثام. وها هو "هواري بومديَن"، خليفة "بن بلّة"، في حملة تغريب وطن "مسّينسّا" العريق، ومسقط رأس القدّيس "أوغسطين"، عن حقيقته المجيدة، يستقل في أحد الأيّام المشؤومة، الطائرة الرئاسية، ليحطّ في طرابلس ليبيا، ليعقد جلسة سريّة مع زعيمها، حرّضه فيها على وجوب التخلّص من شخص محرّر هذا البيان، قصاصاً له على تأليف كتاب "ثورات الصحراء الكبرى"، الصادر عام 1970، والمصادَر من قِبَل سلطات المطبوعات حينها، أسوةً بكتاب "نقد الفكرة الثوري"، الصادر في ذات العام، والمصادَر أيضاً حال صدوره، ليحظى هذان المؤلَّفان بشرف الفوز بقصب السبق في تاريخ حظر الكتب بعد استيلاء حركة سبتمبر 1969 على السلطة في ليبيا. ولم يكن لي أن أتخيّل آنذاك أن تلاحقني لعنة "ثورات الصحراء الكبرى" حتى بعد مصادرته في 1970، ليتحوّل في تجربتي الدنيوية قنبلة موقوتة بعد ستّة أعوام من كتم أنفاسه على يد السلطات، كل ما أعيه أنّي تناولت، في هذا الكتاب، سيرة الانتفاضات التي قامت في واقع صحرائي ضدّ الاحتلالين الفرنسي والإيطالي، تأديةً للواجب نحو أبطال المجهول، الذين استشهدوا افتداءً لحرية الصحراء الكبرى المنسيّة، والمُسقَطة عمداً من حساب التاريخ منذ أقدم العصور، بفضل العزلة، سواء المفروضة عليها من خارجها، أو العزلة التي فرضتها على نفسها فراراً من عالمٍ دنيء، همجيّ، آثمٍ، مُعادٍ لكل ما متّ بصلة للحقيقة وللحرية، أو بالإجمال، للقيمة، لأن معبود هذا العالم الوحيد هو: الغنيمة. كانت الفحوى في هذا الكتاب المتواضع الإدلاء بشهادة حقّ في حقّ أجناد المجهول، لإعادة الاعتبار للضحيّة، طلباً للحقيقة، بحسن نيّة، ولم أتخيّل أن مفهوم حسن النيّة، هو المبدأ، الذي لم يعترف به معجم السياسة يوماً، لأنه في منطقها عملٌ مشبوه، يخفي مؤامرة خبيثة تهدّد النظام القائم، يقيناً من القائمين على أمر النظام أن السلطة دوماً معشوقة مهدّدة، وهي لهذا السبب مستهدَفة من قبل الجميع بلا استثناء. وعبثاً أقنعت نفسي بأنّي معصومٌ من هذه التهمة، لأن السلطة، أو الثراء، أو المجد، بمثابة عنقاء مغرب في أحلامي، وكلّ ما كان لي هاجساً، أو فتنةً، أو أملاً، في تلك المرحلة المبكّرة، هو ما لم أجد له معنى، في اللغة، سوى هذه المفردة الغامضة، المشفوعة بأمنع أحجية، ولكنها الأكثر سحراً، والأقوى حُجّة، كما تبيّن لي فيما بعد، لتترجم هذه الملفوضة الخجولة، ليقيني بأنها وحدها تختزن في باطنها الجواب على كل أسئلتي، فلا تكتفي، ولكنها هي وحدها تعدني بأن تكون، في مغامرتي، قاضي القضاة، الذي سيحكم بيني وبين كلّ خصومي، ألَا وهي: الحقيقة!
فكل ما استهواني حتّى ذلك التاريخ هو هذا الوصيّ، الذي لعب دور قرون استشعار في الاهتداء إلى القلم أيضاً، فأُحسن به الظنّ، لأنه هبة من إلْهام هذا الوصيّ، ولم أتخيّل أن ما أسميته لنفسي الحقيقة، هو مجرد مفردة تسري في منطق اللغة، ولكنّها لا تعني أحداً على الإطلاق، حتّى لأولئك الذين يروقهم أن يتشدّقوا بها في المحافل من حينٍ لآخر. وفاكهة هذا الوسواس، هي التي استدرجتني كي أكشف اللثام عن صنيع أهل اللثام في الانتصار للحقيقة في واقعٍ مغترب كالصحراء، عانى من بطش الأغراب منذ الأزل، آخرها غزوات استيطانية قادتها فرنسا وإيطاليا، لإفناء أهل القارّة، ولكن زعماء الأنظمة السياسية، التي نسمّيها "وطنيّة" جوراً، والتي ورثت السلطة عن هذين النموذجين الاستعماريين، لم تقرأ في نَصّ الكتاب روح الكتاب، لم تقرأ الحقيقة، في الكتاب، لم تقرأ حسن النيّة، كما توهّمتُ كمؤلّفٍ ناشئ، في واقعٍ كلّه ألغام، ولكن من الطبيعي أن يقرأ الزعيمان، في جلستهما السريّة، مبدأً خطيراً، يبدو بالنسبة لأمثالي بريئاً، وهو: الدعوة لانتفاض! ليس مهمّاً أن يُنتَدَب الانتفاض في حربٍ ضد طرفٍ معادٍ هو في المفهوم: استعمار. ولكن الخطورة تكمن في الانتفاض ضد طرفٍ هو، في الأساس، نظام، أي كيان سياسيّ يمارس على الناس سلطات. والسلطات هنا، في المفرد، سلطة. والسلطة هنا صلاحيات. صلاحيات استثنائية، تخوّل باحتكار الحقيقة، لاكتساب هيمنة مطلقة، سواء استنزلنا في حقّها لقب استعمار، أم استبداد، لأن في كلا الحالين هما، كمفهوم، استعباد!