تحية امتنان إلى فرسان الهوية البواسل، الذين تنادوا من كل فجٍّ، ليحجّوا إلى تظاهرة باريس، تضامناً مع محنة قبائلنا في نوميديا، ومأساة شعبنا في «آزواد»، الذي أُريدَ له أن يكون قرباناً في قيامة.
ولكن الإرادة في أبنائه أبت ألّا أن تحوّله بعثاً من قيامة، ظلّت فصولها تتواصل منذ عقود، لتستوي اليوم في مأساةٍ إنسانية، لا يكتفي سادة هذا العالم الجائر بتجاهلها، ولكنهم لا يستحوا بأن يتباهوا بأنهم هم من هندسها، وتبنَّى مخططها، وإلّا كيف يكتفي بموقف شاهد العيان على المذابح في حقّ الأبرياء العُزَّل، دون أن يحرّك ساكناً، في وقتٍ لا يخجل فيه من أن يتشدّق بحقوق الإنسان، وحقّ الأقليّات في تقرير المصير؟ كيف لا يتنكّر لكل القيم الإنسانية والإلهيّة، إذا كان لا يستحي من أن يستبيح حرمة هذه القيم، كأن يبيح تزوير جينات الجنس البشري، في تجديفٍ صريح، لا في حقّ المبادئ الأخلاقيّة وحدها، ولكن في حقّ النواميس الطبيعية والربوبية أيضاً، بل وفي حقّ اللغة نفسها، في حين يعمل كل ما بالوسع لحجب الهوية عن أعرق أمم هذا الكوكب الشقيّ، كأمّة الأمازيغ، التي كان لها الفضل في أن تتبوّأ منزلة الأب الروحي في كل ما متّ بصلة لأحجية التكوين، بدايةً بالفسحة الجغرافية، التي لعبت دور البطولة في مسقط رأس هذا التكوين، وهي الصحراء الكبرى، ونهايةً بنحت المفاهيم الروحيّة والتجريديّة، استخلاصاً من صلب التجربة الحسيّة، كأساسٍ لابتناء اللغة البدئية، كنواة استوى بفضلها أول فصل في تجربة التكوين، كما بيّنّا في موسوعتنا «بيان في لغة اللاهوت»، فلا يجد عرّاب تاريخ ما قبل التاريخ، هيرودوت مفرّاً من الاعتراف بحقّ قصب السبق لقدماء الليبيين في استجواب لغز الوجود، ففاضوا بنبوءاتهم على قدماء اليونانيين، الذين استعاروا منهم كل ديانتهم وآلهتهم، وعاداتهم، وكل ثرواتهم الروحية والتجريبيّة، ليصيروا بفضلهم الرسل الذين أناروا العقل الإنساني في تلك المراحل التاريخية المبكّرة من حضور طفولة الإنسان في حرف لغزٍ مطلسمٍ هو اليابسة، والدليل؟
الدليل تبشّرنا به اللغة نفسها. فعندما يُجمع العلماء في عالم اليوم على حقيقة إفريقيا بوصفها المهد، الذي انبثق من رحمه الإنسان، لينطلق من هناك إلى كل القارات، فإنهم يستشرفون الحقيقة في منطقهم، ولوا أوتوا علماً بلغة أهل المكان لاكتشفوا برهاناً أقوى في دعم حجّتهم، لأن كلمة إفريقيا، استعارة من «آفرا»، التي تعني في لغة الأمازيغ: الصحراء! فما الذي يجعل قارة كاملة تعتنق الصحراء كاسم لها؟ يحدث هذا لأن المنطق يقول أن الصحراء، بوصفها كبرى، هي العلامة الجغرافية الفارقة، التي تميّزها عن بقيّة الأمكنة في اليابسة، ومن الطبيعي أن تنتحل لنفسها طينة هذه العلامة كاسم لها، مما سيعني أن الصحراء الكبرى تحديداً هي مسقط رأس الإنسان في هذا الكوكب، لتكون المسرح البدئي لمغامرته الأرضيّة، مما يفسّر لنا أحجية أن تكون هي المستودع، الذي تغنّى به هيرودوت، الثريّ وجدانيّاً، لدرجة أن تكون له حضارة اليونان المريد الأوّل، الذي تتلمذ على حكمته. أفلا يكون عالم اليوم عاقلاً بما يكفي، كي يعي أن هذا الواقع المكاني، الذي يسفّهه اليوم بأجناس التجديف، هو اللقية الغيبيّة النفيسة الأكثر جدارة بالحماية، ممّا يستوجب تحصينها في المتاحف، بل وإخفائها في بؤبؤ العين، لأن أهلها هم أخلاف آدم، وترابها قدس أقداس، لأنه بصمة سليل تكوين؟
ولكن أخلاف هيرودوت خذلوا سلفهم هيرودوت، عندما سفّهوا امتنان هيرودوت لأمّة التكوين جزاء جودها في حقّ أمّة اليونان، لأن هؤلاء الأخلاف لم يكتفوا بغزو أمّة التكوين، والتنكيل بأبنائها زمن الحملات الاستعمارية الاستيطانية، ولكنّهم أبوا إلّا أن يسلّموا زمام أمرهم لقبائل همجيّة، كل مؤهّلاتها لتكوين دولة هو التباهي بإنكار وجود الله في اسمها، كما «بامبارا» مثالاً، والذخيرة الوفيرة من حقدٍ عنصريّ، والإيمان الأعمى بخرافة «إفريقيا للإفريقيّين»، التي لم تكن في صيغتها كصحراء مسكونة بقدماء الليبيين، إفريقيةً بالمفهوم المستحدث لهذه القارة، ولو علم الأفارقة حقيقة الاسم كصحراء، لأنكروا انتماءهم لها، لأن وجود الصحراء في حياتهم، هو ما لم يكن ليعترفوا به يوماً، لعداوتهم، كأهل أدغال، لكل ما متّ للصحراء بصلة. وها هي فرنسا الاستعمارية تحرم أبناء الملّة الخالدة وطنهم، عندما طرحته غنيمة سائغة لقبائل بلا روح، بلا رؤية، بلا ثقافة، بلا لغة، بلا إيمانٍ بربّ، بلا أيّ مؤهّل يبرّر هذه الهبة العبثيّة، لتنصّب أبناء تلك القبائل سادةً، يتولّون أمر الوطن الصحراوي الأبيّ، بعد أن مزّقته أشلاءً، كي تيسّر لمن استخلفتهم استطعام اللقمة المجانية الشهيّة. وها هم، هؤلاء الأخلاف يتمرّدون على مشيئتها اليوم، وينكرون إحسانها في حقّهم، لتجني فرنسا مقابل إحسانها نكراناً، كما يليق بطينة المخلوق المدعو إنساناً. ولكن يبقى الوطن الذي كان الأرجوحة التي هدهَدَت الحكمة، بوصفها مسقط رأس التكوين، التي أنجبت البذرة التي صارت منارة في سيرورة صعود الإنسان إلى منزلةٍ أعلى، تبقى وفيّةً لوصايا حكيم الأجيال «مسّينسّا»، وقرينه «إيدكران»، وخليفتهما «يوغرتن»، ثمّ القدّيس أوغسطين، ثمّ الكاهنة «تِدَهيت»، ونهايةً بفرسان الزمن الضائع، أمثال طارق بن زياد، أو يوسف بن تاشفين، إلى أساطير زمن الحداثة كما مانو ديّاك، أو إبراهيم بهانغا، المغدور بهما بفعل دسائس الورم الخبيث المحتجب خلف أدعياء القربى، هذا الوطن يبقى شهادة صارخة على حقيقة الثورات ككلمة حقّ أُريدَ بها باطل، في صيغتها عندما تستهدف استبدال نظامٍ سياسيّ بنظامٍ سياسي آخر، ولكنّها لا تلبث أن تستعيد طينتها كحرية، فقط عندما تكون ثورة لاسترداد وطن.
فهل نتنفّس الصعداء باستعادة الأوطان؟
الواقع أن التجربة علّمتنا أن الأقدار كانت أرحم بنا من أنفسنا، عندما لقّنتنا الدرس العصيّ القائل: «إيموهاغ أميهغن!»، أي ما نصَّه في الترجمة: «الأمازيغ، من دون كل الأمم، هويّة اغتراب!»؛ ربّما لأن هذه الأقدار قد اصطفتنا، عندما استنزلت في حقّنا هذه الوصيّة الخالدة، لنكون بفضلها، لا سلالة تدمن المقام في الأوطان، ولكنها السلالة التي خُلقت لتكون في شكٍّ حتّى من الأوطان، لسببٍ وجيه هو أن وطنها أنبل من كل الأوطان الحرفيّة، وهو الوطن المدعو: حريّةً!
لأن الحرية هي الوطن الوحيد الذي يسكننا، ولسنا نحن مَن يسكنه، فنستطيع أن نحمله معنا أينما حللنا، فلا نعدمه أبداً، لأنه قدرٌ مزبورٌ فينا، ولا وجود لقوّة في هذا العالم الفاني، تستطيع أن تنزعه منّا!
أوَ لم تكن الصحراء هي الطينة الوحيدة، الملفّقة من معدن الطبيعة، التي تستطيع أن تبرهن على تجسيد لُقية كالحرية، بوصفها الحُجّة الأخيرة على الحضور في الحقيقة، في واقع دنيا لا وجود فيها للحقيقة؟ يستطيع هذا العالم الجائر أن يحرمنا من المقام تحت ظلال روحٍ شريرة هي الدولة، ولكن هيهات أن يُفلح هذا العالم في أن يحرمنا من المقام في ظلال الحرية، لأن مَنْ استطعَم الحرية في بُعْدها الأدنى، كما الحال مع إنسان الصحراء، ليس له أن يخشى المنيّة، ليقينه بأنها ليست سوى الحرية نفسها، ولكن في أبعادها القصوى!
أليس أسلافنا العظماء هُم مَنْ لقّننا الدرس القائل: بأن الإنسان، في هذه الرحلة الفانية، هو شهيدٌ، وإن ظلّ قيد الحياة؟
إنه الخيار المنيع، الذي يُحيي فينا اليقين بأننا، بحريّة الحدود القصوى، نحن أحياء حتّى لو صرنا في عداد الأموات، أمّا خصومنا فهم، بإدمان الشرور، أمواتٌ حتّى لو توهّموا أنهم قيد الحياة!