كان ولا يزال تهجير الفلسطينيين من أرضهم حلما قائما وهدفا في المخيلة الإسرائيلية ينتظر الذريعة المناسبة واللحظة المواتية وأي لحظة انفجار تلقائية أو مفتعلة للشروع في تطبيقه من خلال مؤسسته العسكرية ومؤسساته السياسية.
ولعل الحرب الحالية على قطاع غزة أثبتت أن ما كان يبدوا هواجس أو مخاوف أو شكوك لدى البعض أصبح الآن أقرب إلى الحقيقة، وما كان يتم بحثه كأفكار ورؤى في الغرف المغلقة والدوائر الضيقة أصبح الآن يطرح علنا للنقاش كسياسات واستراتيجيات تبحث سبل وآليات ومواءمات وتوقيت تنفيذها، وأصبح يتم تداوله بشكل شبه يومي على ألسنة كبار القادة والمسؤولين على مستوى الإقليم والعالم، رفضا أو تأييدا أو تنديدا أو تحذيرا أو تخوفا أو توجسا أو حتى نفيا.
وتسعى سلسلة المقالات هذه إلى تتبع تاريخي لمخططات تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة الفلسطينية إلى سيناء المصرية، وظروف وملابسات كل مخطط وأوجه التشابه بينها والقواسم المشتركة بينها، بدءا من أولى محطاتها في عام 1956 أثناء العدوان الثلاثي على مصر وقبل انسحاب إسرائيل من الأراضي المصرية، حين درست الحكومة البريطانية خططا ومشاريع عدة شملت دمج جزء من سيناء، وقطاع غزة، وجزيرتي تيران وصنافير، وجزء من الأردن لإنشاء منطقة عازلة بين مصر وإسرائيل.
وكان من بين المشروعات المطروحة مشروع باسم "خطة سيناء"، اقترحتها على الحكومة البريطانية إليزابيث مونوريو، رئيسة قسم الشرق الأوسط في مؤسسة الإيكونومسيت في ديسمبر عام 1956، وانتهاء بما كشف عنه معهد "ميسجاف" الإسرائيلي لبحوث الأمن القومي وللاستراتيجية الصهيونية قبل أسابيع قليلة من تفاصيل دقيقة للخطة الإسرائيلية المرتقبة لتهجير كافة سكان قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء.
مع دخول الحرب في غزة شهرها الثالث واجبار نحو 85% من سكان القطاع لترك منازلهم والنزوح نحو أقصى جنوبه على الحدود المصرية مع استمرار الآلة العسكرية الإسرائيلية بكل دأب ومنهجية في إفراغ الشمال مما تبقى من سكانه باستهدافهم عسكريا وحصارهم وتجويعهم، أصبح الحديث عن تجدد فكرة الوطن البديل لفلسطيني غزة في سيناء المصرية المتاخمة أشبه بالحقيقة التي لم يرفضها أو يدينها فقط الجانب المصري المعني بها والذي كان أول من حذر منها باعتبارها ليست فقط تهديدا صريحا ومباشرا للأمن القومي المصري، بل أيضا تصفية للقضية الفلسطينية، بل حذر منها وأدانها عدد كبير من المنظمات الدولية، وعلى رأسها المنظمة الأهم، الأمم المتحدة، التي كانت شاهدا تاريخيا على كافة محطات الصراع العربي الإسرائيلي منذ النكبة الأولى عام 1948 التي شهدت تحول أكثر من نصف سكان فلسطين، النكبة الثانية تبدو أكثر خطورة فإذا كانت الأولى شرد وطرد فيها أكثر من 760 ألف فلسطيني يتوزعون على أكثر من بقعة جغرافية في عدد كبير من الدول، فإن النكبة الثانية التي تطل برأسها تستهدف توطين أكثر من ضعف هذا العدد في بقعة جغرافية واحدة في دولة واحدة مع ما سيخلقه هذا الوضع من مخاطر وتحديات ديموغرافية وجيوسياسية وتهديدات صريحة للأمن القومي المصري وإعلان صريح بتصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية، وتشجيع على تكرار الأمر، إذا نجح، مع فلسطيني الضفة الغربية وتهجيرهم إلى الأردن.
ولعل هذا ما دفع مسؤولين أمميين إلى إطلاق تحذير من احتمال تهجير سكان القطاع إلى مصر، في ظل نزوح غالبيتهم وتوغل القوات الإسرائيلية داخل القطاع المحاصر، حيث حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أثناء تواجده في قطر قبل أيام، من "تزايد الضغط من أجل النزوح الجماعي إلى مصر". فيما كرر المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فيليب لازاريني ذلك، متهما إسرائيل بتمهيد الطريق لطرد سكان قطاع غزة جماعيا إلى مصر عبر الحدود، مشيرا في مقال رأي نشرته صحيفة لوس أنجلوس تايمز قبل أيام إلى أن "التطورات التي نشهدها تشير إلى محاولات لنقل الفلسطينيين إلى مصر"، كما قال مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي الأربعاء الماضي في جنيف إن "من الأهمية بمكان التشديد على عدم الترويج لعملية إجلاء السكان هذه وعدم التشجيع عليها أو فرضها".
قد تكون مخاوف وتحذيرات أهم المنظمات الدولية على الإطلاق والوكالات التابعة لها مفهومة في سياق الموقف الإنساني الأخلاقي والحازم الذي اتخذه أمينها العام منذ بداية العملية العسكرية الإسرائيلية في القطاع، وقد يفهم أيضا في التحول الملموس في موقف الأمانة العامة للمنظمة تجاه القضية الفلسطينية منذ توليه منصبه، والذي ترجم في إحياء المنظمة لذكرى "النكبة" لأول مرة في تاريخها في مقرها في نيويورك في مايو الماضي، لكن ما لا يبدو مفهوما أو مستساغا هو موقف حركة حماس نفسها من هذا المخطط، فالخطورة التي أدركتها مصر والأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية والأمم المتحدة ووكالتها والكثير من القادة والمسؤولين غير المعنيين بشكل مباشر بالصراع، لم تدركها أو تعيها الجهة المسؤولة بحكم الأمر الواقع عن القطاع والمسؤولة بشكل أو بآخر عما حدث، والمعنية بما سيحدث، لذا كان صادما لكن قد يكون مفهوما وكاشفا، تصريح المتحدث باسم حركة حماس أسامة حمدان، والتي قلل فيها من مخاطر مخطط إسرائيل الساعي لتهجير سكان قطاع غزة، وقوله نصا: "لا أحد يتخيل أن صحراء سيناء ستبتلع الفلسطينيين، على العكس تماما ستكون منطقة الحدود هي قاعدة مقاومة أكثر رسوخا باتجاه الاحتلال"، لا يختلف هذا التصريح في مضمونه وفحواه ونتائجه وإن اختلفت الكلمات عن تصريحات لوزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريش، أيد فيها "خطة هجرة طوعية للاجئي غزة".
خطورة تصريح أسامة حمدان ليس فقط في أنه يعكس تماهيا في المواقف بين الطرفين، إسرائيل وحماس في توطين سكان غزة في سيناء، فالأول يرغب ويسعى والثاني لا يمانع ويهيأ نفسه للتعايش مع الوضع الجديد، لكن الأكثر خطورة هنا هو أن الطرف الثاني بدأ يفكر جديا في كيفية استخدام الأراضي المصرية كمنطلق لمحاربة إسرائيل، وهذا ما أدركه وتحدث عنه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي منذ بداية الأزمة حينما قال في أكتوبر الماضي ، خلال استقباله المستشار الألماني أولاف شولتس، "إن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء يعني نقل القتال إليها وستكون قاعدة لضرب إسرائيل، مضيفا أن حصار قطاع غزة هدفه في النهاية نقل الفلسطينيين إلى مصر".
وهنا فإن ما رفضته حتى الولايات المتحدة الأميركية علنا على لسان كبار مسؤوليها ومن بينهم رئيسها ونائبته ووزير دفاعها، قبلته حماس ضمنا، ولهذا التصريح بالتأكيد ما بعده حتى وإن تم التراجع عنه أو تم تقديم تفسير مغاير له، ويفضح بما لا يدع مجالا للشك مخططا كان مبيتا له بتهجير أهل غزة وتسليمها لمحتلها بحجة تم افتعالها كما يقول ذلك صراحة بعض سكانها الذين استنكروا إعلان حماس أن "المقاومة ستسمر من وطن غير الوطن"، وأن "النصر سيعلن من أرض لا نملكها" على حد قولهم، معتبرين ذلك خيانة للقضية وتصفية لها، ومؤكدين أن من تضرروا من ذوي الشهداء أو المصابين والمهجرين سيرفضون هذا الأمر لو كان القرار بيدهم.
ولهذا الحديث بقية..