كانت الأرجنتين دولة غنية قبل مئة عام، بل كانت أغنى من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وكان الأوروبيون يشدون الرحال إليها للعمل في أرضها الخصبة، فصارت مضربا للمثل بالثراء. غير أنها اليوم دولة فقيرة، وهناك أسباب لهذا التدهور، سأستعرضها في هذا المقال.

هناك مقولة طريفة لعالم الاقتصاد الأمريكي الراحل، سايمون كوزنيتس، الحائز على جائزة نوبل لعام 1971، وهي إن البلدان أربعة أنواع: المتطورة وغير المتطورة واليابان والأرجنتين!

ويشير كوزنيتس بهذا التصنيف الطريف إلى فرادة الوضع السياسي الأرجنتيني، الذي دمر الاقتصاد وأفقر الشعب خلال فترة قياسية في معايير الزمن، وفي الوقت نفسه إلى فرادة الوضع السياسي في اليابان الذي قاد إلى نهضة صناعية بسرعة لم تتبع مراحل التطور الاقتصادي المألوفة، خصوصا بعد الدمار الهائل الذي لحق بها في الحرب العالمية الثانية، وتلقِّيها قنبلتين نوويتين مدمرتين، كانتا ستقضيان على أي أمل في النهوض، لو كانتا قد سقطتا في بلدان أخرى.

لكن اليابان لعِقت جراحَها، ووضعت الماضي خلفها، وتمسكت بالدستور الذي كتبه ضابطان أمريكيان متخصصان بالقانون، هما ميلو رويل وكورتني ويتني، على ظهر سفينة حربية خلال أسبوع، وتحالفت مع عدوها الذي ضربها بالسلاح النووي، من أجل البناء والإعمار. أدرك اليابانيون أن المستقبل أهم كثيرا من الماضي، فشمَّروا عن سواعدهم، وحرروا عقولهم من عُقد التفوق والهزيمة، فحققوا تلك النهضة المذهلة، فتبوأت اليابان المركز الثاني في الاقتصاد العالمي، بعد الولايات المتحدة، بعد عقدين فقط من الهزيمة الأليمة.

لكن مقولة كوزنيتس، التي مضى عليها نصف قرن، بحاجة إلى تحديث، فهناك بلدان أخرى يمكن إدراجها ضمن هذا التصنيف، منها العراق مثلا، الذي كان مهدا للحضارات والابتكارات العلمية، والتعايش بين الأقوام والطوائف، ومضربا للمثل في الثراء، فأُطلقت عليه أسماء عديدة تحتفي بثرائه، منها (أرض السواد والهلال الخصيب وما بين النهرين).

كما كان البلد الثاني في الشرق الأوسط الذي أنتج النفط، عام 1927، ومازال يضم خامس احتياطي نفطي في العالم، بعد فنزويلا والسعودية وإيران وكندا. لكن العراق الآن دولة ريعية، لا مورد لها سوى إيرادات النفط المتقلبة، فعندما ترتفع الأسعار، تبدأ الحكومة بتبذير الأموال على مجالات تشجع الاستهلاك المعتمد على الواردات، وعندما تنخفض، تتعرض لضائقة شديدة فتلجأ إلى الاستدانة وتخفيض العملة وتأخير دفع رواتب الموظفين أو تسريحهم كليا.

العراق يعاني من علل سياسية واقتصادية واجتماعية مستحكِمة، وهي آخذة في التفاقم، بعد أن تشكلت جماعات مسلحة مرتبطة بدولة أخرى، تتحدى سلطة الدولة وتهاجم السفارات ومصالح الدول الكبرى، دون الاكتراث لما تتركه هذه الأفعال غير المسؤولة من عواقب وخيمة على مستقبل البلاد، بينما يشير عجز الدولة عن ردعها، إلى ضعف النظام السياسي، إن افترضنا أن الوضع الحالي يمكن تسميته نظاما. إن كانت الحكومة عاجزة عن تحقيق الأمن وجلب المجرمين والسراق إلى القضاء، فلماذا تتوقع من الدول الأخرى أن تثق بها وتتعاون معها؟ ومن الشركات أن تأتي للاستثمار فيها، أو إعمار الخراب المنتشر في أنحائها؟

هناك دولة أخرى يشملها تصنيف كوزنيتس، ألا وهي فنزويلا، التي كانت أول دولة في أمريكا الجنوبية تنال استقلالها من إسبانيا، وكان ذلك عام 1811، وتضم أكبر احتياطي معلوم للنفط في العالم، حسب مصادر عديدة بينها شركة (BP) العملاقة، لكنها تعاني، منذ أواخر الألفية الثانية، من الفقر وعدم الاستقرار والتدهور المتفاقم، بل صارت رمزا للدولة الفاشلة، بسبب الشعبوية والسياسات غير المدروسة، خصوصا في عهد الرئيسين هيوغو شافيز ونيكولاس مادورو. ومنذ عام 2016، تعاني فنزويلا من التضخم المفرط، إذ تفاقم إلى 9586% عام 2019، حسب بيانات البنك المركزي الفنزويلي.

أسست فنزويلا سياساتها على مناهضة الولايات المتحدة، فجلبت على نفسها عقوبات شلَّت اقتصادها، والآن تأمل برفع العقوبات الأمريكية تدريجيا، مقابل إجراء إصلاحات ديمقراطية. من البديهي أن الحكومات التي تتبنى سياسات طوباوية، تفوق قدراتها على تحقيقها، وتثقف شعبها خلافا للواقع، إنما تسعى لإضعاف دولها وإفقار شعوبها، وهذا ما فعلته فنزويلا في ظل شافيز ومادورو.

هناك دول أخرى في العالم تراجعت سياسيا واقتصاديا، بسبب الصراعات المسلحة، مثل الصومال واليمن وسوريا، وهي تزداد تفككا مع غياب شبه كامل للأمن الذي هو أساس الاستقرار والازدهار. ستبقى هذه الدول تعاني حتى يعي قادتها أن تنمية الاقتصاد وتطوير العلاقات الدولية هي أساس البقاء في العصر الحديث، وأن عليها المضي سريعا إلى المستقبل، بدلا من إعادة الماضي، فهذه عملية عبثية، لأن الماضي لن يعود.

وبالعودة إلى الأرجنتين، يمكن القول إن الشعبوية والصبيانية السياسية والنظرة القصيرة الأمد، التي طبعت الوضع السياسي فيها كانت السبب الرئيسي لتدهورها. وأصل المشكلة هو هيمنة الحركة البيرونية على المشهد السياسي. وتستمد هذه الحركة اسمها وإلهامها من الجنرال خوان بيرون، الذي برز كزعيم سياسي في أربعينيات القرن الماضي.

كان بيرون زعيما ساحرا، التف حوله الأرجنتينيون من اليمين واليسار، فصار رمزا للوطنية في نظر غالبية الشعب، فصارت زوجته، إيزابيلا، نائبا للرئيس، ثم خلفته في الرئاسة بعد مماته عام 1974. ورغم أن الطابع العام للحركة البيرونية يساري، إلا أنها استقطبت اليمين أيضا، ما يعني أنها لا تمتلك عقيدة سياسية محددة، وإنما حركة قومية تستمد إلهامها من شخصية خوان بيرون الكارزمية! وكان جناحا الحركة يصطدمان حتى في حياته، وقد هاجم اليمينيون اليساريين في حادثة عرفت بـ(مجزرة أسيسا) وقعت أثناء استقبال مؤيديه له عند عودته من منفاه في إسبانيا عام 1973، والتي قتل فيها عدد كبير من اليساريين.

وجذر المشكلة هو أن العواطف، وليس المصالح، توجِّه السياسة، فصار كل زعيم سياسي يسير على نهج بيرون، أو يدعي ذلك، يكتسح الشارع وينتخبه الأرجنتينيون دون الاكتراث لبرنامجه السياسي والاقتصادي. وعندما يتولى السلطة، يقفز على القوانين والمبادئ الاقتصادية عبر الإنفاق غير المسؤول والعبث بالاقتصاد، وبمرور الزمن تدهور الاقتصاد وساءت السياسة.

معظم رؤساء الأرجنتين المنتخبين، منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى عام 2023، كانوا بيرونيين. هناك آخرون انتخبوا من أحزب أخرى، مثل راؤول ألفونسين، الذي يعتبر مؤسس الديمقراطية في الأرجنتين، لكنهم لم يستطيعوا تنفيذ برامجهم بسبب المعارضة البيرونية.

لقد جاءت الظاهرة البيرونية برؤساء، مثل كارلوس منعم وألبيرتو فرنانديز، ركزوا على المنافع القصيرة الأمد، على حساب مستقبل البلاد واستقرارها. أحد علماء السياسة قال إن الأرجنتين لن تستقر حتى يُمنع الحزب البيروني من المشاركة في الانتخابات، لأن مرشحه سيفوز، بغض النظر عن برنامجه السياسي والاقتصادي، إذ ظل اسم بيرون محاطا بهالة عجيبة في الأرجنتين، لم يقترب منه اسم في عالم السياسة سوى كندي في أمريكا وغاندي في الهند.

إنديرا غاندي مثلا، استثمرت في اسم (غاندي)، رغم أنها ليست من أقارب المهاتما، فبقيت عائلتها في الصدارة، سواء في الحكومة أو المعارضة. وفي أمريكا بقي اسم كندي جذابا للناخبين، حتى أن الرئيس بيل كلنتن، روَّج لنفسه عبر التشبه بكندي، متسلحا بفديو يصافح فيه الرياضي الشاب، بيل كلنتن، الرئيس المحبوب جون كندي.

تدهوَرَ الاقتصاد الأرجنتيني بشكل متسارع نتيجة للانقلابات العسكرية والسياسات الشعبوية للرؤساء المتعاقبين، إذ بلغ معدل التضخم 138%. ومنذ عام 1950 حتى 2016، مرت البلاد بـ 14 فترة كساد، وفق حسابات البنك الدولي، فمقابل كل سنتين نمو، هناك سنة كساد، ما قاد إلى انكماش الاقتصاد بنسبة 3.5% سنويا.

وبعد أن كانت الأرجنتين أغنى من ألمانيا، صار دخل الفرد الأرجنتيني السنوي (12600 دولار)، أي كما كان عليه عام 1974، وفق مركز (Trading Economics) العالمي للأبحاث، بينما بلغ دخل الفرد الألماني (43000 دولار) في عام 2023. كما عجزت الأرجنتين عن دفع ديونها 3 مرات منذ عام 2000، وفق مجلة إيكونوميست، ما يعني أنها لا تستطيع الاقتراض من أسواق المال العالمية، لذلك لجأت إلى طباعة النقود، مما فاقم معدل التضخم.

لجأت الأرجنتين إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي 22 مرة منذ انضمامها عام 1956، وهي الآن مدينة للصندوق بـ43 مليار دولار. وفي ظل الحكومات البيرونية، صار الأرجنتينيون لا يثقون بالعملة الوطنية، (بيسو)، فيدَّخرون أموالهم بالدولار، إما نقدا، أو في البنوك الأجنبية، وتقدر هذه المدخرات، حسب إيكونوميست، بـ 250 مليار دولار، بينما دأبت الحكومة على إصدار بيانات كاذبة حول الاقتصاد، في وقت يعيش فيه نصف السكان على الإعانات الحكومية بسبب الفقر.

رئيسة الأرجنتين البيرونية (2007-2015)، ونائبة الرئيس حتى الشهر الماضي، كريستينا فرنانديز ديكيرتشنر، أدينت هذا الشهر بتبديد مليار دولار، وحُكِم عليها بالسجن ست سنوات. واستنادا إلى بنك التنمية للدول الأمريكية، فإن 7% من الناتج المحلي الإجمالي (34 مليار دولار) تُبدد سنويا نتيجة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة.

في الانتخابات الأخيرة، التي جرت على جولتين، في أكتوبر ونوفمبر، كان واضحا أن الأرجنتينيين أدركوا، بعد طول انتظار، أن البيرونيين لن يقودوهم إلى استقرار أو ازدهار، بل سوف يكررون الأخطاء السابقة، ويقدِّمون وعودا لا يستطيعون تنفيذها، ويرتكبون مخالفات لم يعد البلد قادرا على تحملها، لذلك لم يصوتوا لمرشح الحزب البيروني الحاكم، سيرخيو ماسا، الذي اتخذ إجراءات غير مسؤولة قُبيل الانتخابات من أجل كسب الناخبين، منها إلغاء الضرائب على 99% من العمال، وتقديم منحة قدرها 100 دولار للمتقاعدين، فانتخبوا رئيسا من حزب (الحرية تتقدم)، هو خافير ميلي، الاقتصادي اللبرالي، الذي وعد بإجراء إصلاحات جذرية لتصحيح الأخطاء المتراكمة عبر السنين، بينها تقليص الإنفاق الحكومي من 40% إلى 15%. لكن ميلي سيواجه صعوبات جمة لتنفيذ وعوده بإصلاح الاقتصاد، فحزبه لديه 38 مقعدا بين 257 في مجلس النواب، و8 مقاعد بين 72 في مجلس الشيوخ، وليس لديه حكّام ولايات ولا رؤساء بلديات.

مع ذلك، فالأرجنتينيون بدأوا عملية الإصلاح بانتخاب رئيس كان صريحا معهم، وعزفوا عمن يقدمون وعودا، قد تنفعهم مؤقتا، لكنها مدمرة للبلد مستقبلا. أما العراقيون والفنزويليون فمعانتهم مستمرة. هناك بوادر على بداية للانفراج في فنزويلا، إذا بدأ النظام، تحت الضغوط الشعبية، يتخلى عن سياسة المواجهة غير المتكافئة مع أمريكا. أما العراقيون فقد حاولوا إصلاح النظام عامي 2019-2020، لكن قناصي (الطرف الثالث) تصدوا لهم بالرصاص وقتلوا وجرحوا وخطفوا وهجّروا عشرات الآلاف منهم، لكنهم مازالوا يحاولون، فهذا هو قدرهم.