أطلقت العواصم الغربية في الأسابيع الأخيرة سلسة إشارات تنذر باحتمالات تراجع الدعم لأوكرانيا. لم تقم تلك الإشارات على أي أساس سياسي يفيد بتحوّلات تقبل الأمر الواقع الروسي في ذلك البلد، لكنها مع ذلك تعبّر عن حيرة بشأن مستقبل هذه الحرب ونجاعة استنزاف موارد عسكرية ومالية في حرب مستحيلة.
لم تخف صحيفة الايكونوميست البريطانية العريقة احتمالات انتصار روسيا بزعامة فلاديمير بوتين في هذه الحرب. راحت صحف غربية أخرى تتبارى في نشر مقالات تذهب في هذا الاتجاه. بعضها يدفع باتجاه إسقاط الخيار العسكري في مواجهة روسيا بما يتوافق مع أطروحات سابقة لقوى يسارية وأخرى يمينية متطرفة وشعبوية تدعو إلى عدم معاداة موسكو. بالمقابل فإن مقالات أخرى تهدف إلى تنبيه النخب السياسية الغربية إلى مآلات هذه الحرب إذا ما ضعف الدعم العسكري لأوكرانيا وإذا ما سيطر التردد وعدم اليقين على أصحاب القرار.
في الآونة الأخيرة وضع رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان فيتو على انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي. وبما أن قرارات الاتحاد تحتاج إلى إجماع فإن هذا الأمر كان يحتاج إلى "معجزة". يمتلك الرجل علاقات ودّ مع الزعيم الروسي ويمثل رأس جبل الجليد لتيار داخل دول الاتحاد لا يحبذ الدعم غير المشروط الذي تقدمه أوروبا والحلف الأطلسي لأوكرانيا.
وقد تمدد التشكيك بجدوى دعم أوكرانيا إلى داخل الكونغرس في الولايات المتحدة بحيث تجد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن صعوبة في تمرير سلة تمويلات جديدة لأوكرانيا بقيمة 60 مليار دولار. ولا ريب أن استمرار صلابة الموقف الأوروبي في دعم أوكرانيا يرتبط بصلابة هذا الموقف في الولايات المتحدة.
وفق هذا الهاجس استخدمت واشنطن مواهب وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون. فالرجل كان زعيما لحزب المحافظين ورئيسا للوزراء ويمتلك خبرة وسمعة وربما مصداقية لدى نخب الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، في الولايات المتحدة. زار كاميرون واشنطن في 8 ديسمبر الجاري وأطلق ما يشبه "حملة" ترويج للدعم لأوكرانيا. قال هناك: "علينا دعمهم والتأكد من أن بوتين هو من سيخسر، لأنه إذا لم يتم التصويت على هذه الأموال، فلن يبتسم إلا شخصان: فلاديمير بوتين في روسيا وشي جينبينغ في بكين".
استدعى الأمر أيضا زيارة قام بها الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي إلى واشنطن في 11 من الشهر الحاري بدعوة من الرئيس الأميركي في محاولة للتسويق لأمر استمرار الدعم داخل الكونغرس. لكن الأرجح أن مماحكة سياسة بين الديمقراطيين والجمهوريين وراء "النكد" الجمهوري ضد حزمة المساعدات الجديدة لأوكرانيا وأن قرار الولايات المتحدة الحقيقي بحزبيها هو الاستمرار في دعم أوكرانيا. وكان لافتاً أن يصوّت الكونغرس بسهولة على حزمة مساعدات من 14 مليار دولار لإسرائيل ويستعصي الأمر بالنسبة للمساعدات إلى أوكرانيا.
ليس جديدا هذا الجدل الداخلي بشأن مستويات الدعم لأوكرانيا. بدأ الجدل منذ الأيام الأولى للحرب لأسباب جيوسياسية تتعلق بموقع روسيا في الثقافة السياسية الغربية ولأسباب اقتصادية تتعلق بكلفة هذا الدعم وتأثيره على اقتصادات العالم. لكن الموجة الجديدة من "التذمر" تنهل وجاهتها من فشل الهجوم المضاد الذي وعدت كييف بأنه سيغير وجه المعركة. وعلى الرغم من اعتراف زيلنسكي بهذا الفشل غير أنه يعتبر أن الدعم الغربي المتواصل كفيل بتصويب مسار هذه الحرب وإلحاق الهزيمة بروسيا.
وفق هذا النقاش كثر الحديث عن خلاف بين الجنرال فاليري زالوجني القائد العام للقوات المسلحة والرئيس في أوكرانيا. تحدثت المعلومات أن أصل الخلاق بدأ بسبب إصرار زيلنسكي على بدء الهجوم المضاد لحاجته إلى ما يمكنه إقناع الغرب بمواصلة الدعم. فيما كان قائد الجيش يرى أنه يجب انتظار إدخال طائرات اف 16 الأميركية في المعركة.
لكن الأمر بات سجالا بين الرجلين خصوصا وأن استطلاعات الرأي كشفت أن زالوجني سيربح الانتخابات (إذا حصلت) بنسبة 84 بالمئة مقابل زيلنسكي الذي يحظى بنسبة 72 بالمئة. وتروّج النميمة في كييف أن هذا هو السبب الذي يدفع الرئيس الأوكراني إلى عدم إجراء هذه الانتخابات.
وترى أوساط عسكرية غربية أنه كان مطلوبا أن يُشنّ الهجوم على محور واحد تتركز ضده كل الأسلحة الغربية الجديدة المرسلة لا سيما تلك المدرّعة فيما شنّ الاوكرانيون هجوما على محاور متعددة. ويذكر هؤلاء الخبراء بأن واشنط وحلف الناتو نصحوا كييف باكرا بالتخلي عن باخموت بسبب عدم أهميتها الاستراتيجية، فيما أصر زيلنسكي على خوض المعركة هناك والسعي لإعادة السيطرة عليها بعد سقوطها بسبب أهميتها الرمزية.
ومع ذلك فإن العواصم الغربية لا تسقط من حساباتها القوة الجبارة التي تملكها روسيا على المستوى البشري لكن أيضا على المستوى الصناعي القادر على تعويض الميدان ما يخسره من ذخيرة وعدّة وعتاد. كما أن تلك العواصم تعترف بفشل العقوبات الاقتصادية على تحقيق ما كأن مأمولا من انهيار للاقتصاد الروسي. وعلى هذا فهي تعتبر أن "نكسة" أوكرانيا لا يمكن أن تُحمَّل للطرف الأوكراني وحده، ناهيك من ان العقيدة الأمنية الأطلسية ما زالت ترى أن سقوط أوكرانيا يمثّل تهديدا داهما لأمن أوروبا والمنظومة الغربية برمتها.
يلمّح بعض المراقبين إلى أن زيلنسكي يغرّد هذه الأيام خارج المزاج الغربي العام وأنه ما زال متمسّكا بخطاب المناشدة والتحذير والتهويل من دون ظهور أعراض إمكانية كسر المسار الذي تسير وفقه الحرب في أوكرانيا. مقابل هذا اللغط يتصرّف الرئيس الروسي على نحو انتصاري سواء في إطلالاته على الخارج، لا سيما في زيارته الأخيرة إلى السعودية والإمارات، أو في التعبير عن تقييمه للحرب من موقع أن سقوط أوكرانيا هو مسألة وقت. وكان واضحاً في المؤتمر الصحفي السنوي الذي عقده بوتين، الخميس الماضي، أنه ما زال متمسّكاً بأهدافه لإنهاء الحرب "استئصال النازيّة ونزع سلاح أوكرانيا وحيادها"، على حد قوله.
ولئن تندرج الاستراتيجية الروسية داخل المشهد الاحتمالي لمفاوضات تملي الرؤية الروسية للحلّ، يسعى زيلنسكي لإقناع حلفائه بعدم السقوط في هذه القدرية واختيار الدعم لأوكرانيا. بعد زيارة واشنطن مرّ على النروج ليستنتج دعم قادة دول الشمال الأوروبي الخمس (النرويج والسويد والدنمارك وفنلندا وايسلندا). رفد أمين عام الحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ زيلنسكي قبل أيام بالدعم قال إن "ثمة خطر حقيقي، بوتين لن يتوقف في حال انتصر في أوكرانيا، دعمنا لأوكرانيا ليس عمل خيري، بل هو استثمار في أمننا".
تمكّن فيتو أوربان من منع تمرير قرار بسلة تمويلات أوروبية لأوكرانيا بقيمة 50 مليار يورو واشترط قبل ذلك ان يفرج الاتحاد عن كامل المستحقات المجرية من صندوق الإنعاش الأوروبي. بالمقابل حصلت "المعجزة"، الخميس، حين وافق قادة الاتحاد الأوروبي على بدء مفاوضات انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد. استدعى الأمر تدخل المستشار الألماني لدى رئيس الوزراء المجري المهدِّد بالفيتو فهمس له بعدم حضور التصويت. وهذا ما حصل فتمّ تمرير القرار باجماع الحاضرين. دعم القرار الأوروبي زيلنسكي في أوكرانيا وبدا فعليا أنه لا يغرد خارج السرب.