غالبا ما تستفز عبارة "شرق أوسط جديد" رأس الممانعة وأذرعها، فيعتبرونها مؤامرة موصوفة لإزاحتهم من المعادلة الإقليمية، لذا يعلنون الحرب عبر منابرهم وخطاباتهم وعالمهم الافتراضي على رعاة هذا المشروع في الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية وإسرائيل.
وأيضا، هم يعلنون الانتصار المتواصل لمنعهم هؤلاء الرعاة من تحقيق أمنياتهم، كما يرددون.
هذا ما يحصل، اليوم، بالرغم من التطورات الدموية للحرب في غزة، وهذا ما حصل بعد "حرب تموز 2006" على لبنان، عندما تحدَّت الممانعة وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس، التي اعتبرت أن مشروع "شرق أوسط جديد" وُضِعَ على السكة.
ففي الواقع، ما بشرَّت به رايس يُنَفّذ على قدمٍ وساقٍ، بوضوح تام في العراق واليمن وسوريا ولبنان ومناطق الحكم الذاتي الفلسطينية، حيث غاب مفهوم الدولة بمؤسساتها وجيشها الوطني وأمنها واقتصادها، لمصلحة ميليشيات ذات طابع مذهبي، تدين بولائها وبسلاحها إلى رأس محورها، وتغلِّب مصلحته على مصلحة البلد الذي تحمل هويته.
والمؤسف أن هذا المشروع لا يهدف إلى القضاء على الممانعة وكف يدها عن تأجيج الانقسامات الطائفية والايديولوجيات الدينية في المنطقة وتغذية التطرف والإرهاب واستخدامهما وفق المتطلبات، وتعميم الفساد وإفقار الشعوب وتجهيلها وإغراقها بالمخدرات المصنوعة محليا لرفد الاقتصاد الممانع.
أو كأن المطلوب الإبقاء على هذه الممانعة سيفا مسلطا على شعوب المنطقة وقياداتها الشرعية لابتزازها حيث يجب وعندما يلزم، وفي الوقت نفسه، العمل على إبعادها قدر الإمكان عن خريطة المصالح الاقتصادية، لذا كان الفيتو الأميركي في الأمم المتحدة على قرار وقف إطلاق النار في غزة، ولذا تستمر فترة السماح لإسرائيل، ولمدة تتراوح بين شهر وستة أسابيع كما تشير المعلومات المتداولة.
فالواضح أن الخيار اتُّخِذ لدفع الغزاويين إلى رفح، ومنها ربما إلى سيناء، وبالتزامن، اعتماد سياسة الأرض المحروقة في قرى جنوب نهر الليطاني، لدفع "حزب الله" إلى شمال النهر، وذلك "بكافة الوسائل"، وفق تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، من دون إغفاله "الوسيلة العسكرية"، وكأنه وجيشه وحكومته يعتمدون غيرها لإبادة ما أمكن من الغزاويين المدنيين والقضاء على احتمال عودة من تبقى، ولا سماح بإعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب إلا بشروط مستحيلة.
بالتالي، الشرق الأوسط الجديد يستكمل فصوله بفعل هذه الحرب ونتائجها، على الرغم من أن إسرائيل تلقَّت ضربة هزت أسسها في عملية "طوفان الأقصى"، وعلى الرغم من أن الميدان لا يزال عصيا على ما يتيح لها حسم المعركة لصالحها، لأن مقاومة الغزاويين لا يستهان بها.
لكن هذه الحرب ستنتهي. ومن المرجح أن تطيح بالحياة السياسية لرئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي بنيامين نتنياهو، وفتح مرحلة جديدة، حتى لو تكرست معادلة "لا غالب ولا مغلوب"، بما يتيح لكلٍ من طرفيّ الصراع تبني سردية انتصار تلائمه وتحفظ مصالحه.
إلا أن الإحباط قدر من يترقب لها نهاية تعيد الحق إلى أصحابه، الذين دفعوا ثمنا مهولا حرَّك الرأي العام الدولي وليس إداراته السياسية. وقطعا كان يمكن الاستفادة عندما يبدأ البحث عن الحلول، لو تتوحد قيادة الفلسطينيين بما يسمح بجلوس ممثليها حول طاولة مفاوضات مع المقررين الدوليين والاقليميين.
ولكن الأمنيات صعبة التحقيق، لأن "حركة حماس" ليست صاحبة قرارها من دون إملاءات رأس محورها الذي يستثمر في الدم الفلسطيني والانقسام الفلسطيني، لذا لا بد أن نتوقع ترتيبا دوليا على حساب أهل غزة بعد تهجير مليون و800 ألف منهم إلى الحدود المصرية، وعلى حساب أهل الجنوب اللبناني إذا استكملت فصول دفع "حزب الله "نحو الشمال بالنار والدمار، لأن حلقة من حلقات الشرق الأوسط الجديد تقضي بترتيب الخرائط من رفح إلى حدود نهر الليطاني.. وربما بقبول وتسليم من رأس المحور، الذي يحصل على المكافآت وحده دون سواه.. ورحم الله الشهداء.