كثيرة هي علامات الاستفهام التي دمغت زيارة الموفد الفرنسي جان إيف لو دريان إلى لبنان على إيقاع تطورات "حرب غزة" وما ترسمه من خرائط جديدة للمنطقة.
فقد حمل لو دريان ملف تأجيل تسريح قائد الجيش جوزيف عون، وسعى إلى فرضه لتجنب الشغور في رأس المؤسسة العسكرية، ورَبَطَهُ بضرورة تطبيق القرار 1701 من الجانب اللبناني حصرا.. وإلا فإن خطر انزلاق لبنان إلى مواجهة مفتوحة مع إسرائيل سيصبح واقعا.
وفي حين لقي طرح الموفد الفرنسي قبولا من القوى السياسية "السيادية"، وهي الأحزاب المعارضة لسيطرة "حزب الله" على القرار اللبناني ومصادرته قرار الحرب والسلم، ومعها نسبة وازنة من النواب المستقلين، وذلك خوفا من فلتان أمني ومن انهيار مؤسسة الجيش التي لا تزال تمثل ضمانة لبقاء لبنان وعدم تشظيه، وتحول دون وقوعه تحت رحمة ميليشيات الأمر الواقع التي نمت بإرادة من الحزب والمحور الممانع بحجة دعم "حركة حماس".
إلا أن القوى المنخرطة في محور الممانعة، وتحديدا "حزب الله"، رفضت تبسيط مهمة لو دريان ومن خلفه دول إقليمية ودولية كبرى، لتكرس لها سيناريو أبعد وأكثر تعقيدا، وتشير إلى عدم اقتناعها بأن الهدف الفرنسي يقتصر على حماية المؤسسة العسكرية، وترتيب أمور البيت اللبناني مع استمرار الشغور في سدة رئاسة الجمهورية، بل هو يشكل جزءا من كلٍ أوسع يتعلق بما ستؤول إليه مسارات المنطقة، ويهدف إلى إرغام "حزب الله" على سحب آلته العسكرية من جنوب الليطاني، وتسهيل إنشاء منطقة عازلة خالية من السلاح تحت إدارة قوات حفظ السلام الدولية (اليونيفيل)، بما يضمن أمن إسرائيل على حدودها الشمالية، لتتفرغ إلى هدفها القاضي بتصفية "حركة حماس"، "ليس فقط في غزة والضفة، وانما أيضا في لبنان وحتى تركيا وقطر"، وفق التصريحات الأخيرة لرئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي "الشاباك" رونين بار.
ولأن إسرائيل لا تعمل بمعزل عن الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، تكبر علامات الاستفهام لدى الممانعون حيال ما يخطط له الأميركيون من خلال الدعم المستمر للعملية العسكرية الإسرائيلية المتواصلة، والتي بدأت تتجاوز شمال غزة إلى خان يونس، وربما طلبوا من الفرنسيين تولي الجزء اللبناني من المخطط المرسوم.
ويضخم المحور الممانع هواجسه بهذا الشأن. من هنا كان إبلاغ الجانب الفرنسي رفض تدخله بمسألة التمديد لقائد الجيش، والذي تولاه رئيس "التيار الوطني الحر" والحليف الملتبس لـ "حزب الله" جبران باسيل، وتحديدا بالتزامن مع التطورات المتسارعة للحرب بين حكومة بنيامين نتنياهو و"حركة حماس"، وكأن باسيل ينفذ بدوره مهمة عرقلة مساعي لو دريان ومن وكَّله بهذه المساعي، ما يسمح لمحور الممانعة بالالتفاف غير المباشر على معادلات التوازن بالنار، من دون تورط يتجاوز قواعد الاشتباك الحالية.
وتجدر الإشارة إلى أن "حزب الله" يبدي تجاوبا ظاهريا مع دعوات ضبط النفس وعدم إعطاء ذرائع لإسرائيلي حتى توسع هجماتها على لبنان، في حين يواجه باسيل، وحيدا في العلن، الموفد الفرنسي، تحت عناوين السيادة وتطبيق الدستور وما إليه، ليقطع الطريق على ما تتوجس منه إيران لجهة توجه دولي، وربما إقليمي، لحرمانه من أذرعه، إن في لبنان او في فلسطين.
لكن من يضمن بقاء المحور الممانع على ضبط النفس في لبنان؟؟ وماذا عن التصريحات الإيرانية التي رافقت عودة الآلة الإسرائيلية الى نشاطها الدموي؟؟ ماذا عن التحذير الأخير المتعلق بعدم التعرض للمصالح الإيرانية في سوريا؟؟
أين فرنسا من كل هذه التحديات؟؟ وهل يكفي أنها تريد حجز مكان لها في الشرق الأوسط من خلال زيارات لو دريان إلى لبنان؟؟ هل تستطيع النجاح في مهمتها بعد فشلها السابق في معالجة أزمة رئاسة الجمهورية؟؟
ربما تحمل التطورات على الأرض أجوبة شافية أو مفاجآت ليست في الحسبان!!