ليس صعبا أن نعرف أسباب التراجع الاقتصادي الألماني الحالي، فالغزو الروسي لأوكرانيا كان فاتحة المشاكل لاقتصاد ألمانيا، إذ اضطرها للبحث عن مصادر جديدة للطاقة خلال فترة قصيرة.

لكن فرنسا، تتقدم اقتصاديا وتنجح في استقطاب الاستثمارات العالمية، وتنال ثقة المستثمرين، حتى من ألمانيا نفسها، وتستفيد من غياب بريطانيا عن السوق الأوروبية. فهل يقود هذا التنافس بين قطبي الاتحاد الأوروبي إلى إضعافه؟ أم أنه تنافس بين حلفاء، يقود إلى تقوية أواصر التحالف؟

كانت ألمانيا قد استثمرت كثيرا في خطَّي (نورد ستريم1) و(نورد ستريم2)، اللذين ينقلان الغاز الروسي إلى أوروبا، ووجَّهت اقتصادها ليعتمد على الطاقة الروسية الرخيصة، بنسبة بلغت 55%، حسب مؤسسة بروكينغز، دون أن تأخذ في الحسبان العلاقة القلقة بين روسيا والغرب، في ضوء تدخلِها العسكري في جورجيا عام 2008، ثم احتلالِها شبه جزيرة القرم عام 2014، متجاهلةً التحذيرات الأمريكية من الاعتماد على روسيا.

كانت مفاجأة الغزو الروسي صادمة لألمانيا، إذ اضطرتها، مع باقي الدول الغربية، إلى مقاطعة روسيا وفرض عقوبات عليها، بل وفك الارتباط بها على وجه السرعة، والبحث عن مصادر بديلة للطاقة، ولم يكن الأمر سهلا على الإطلاق.

لكن ألمانيا نجحت في هذا المسعى، خلافا لما توقعه محللون، بأنها ستتكبد أضراراً كبيرة، خصوصاً مع حاجتها لزيادة الإنفاق على التسلح، لكن الظروف الجوية والتضامن الغربي، ساعدتها على تجاوز الأزمة بأقل الخسائر، رغم ارتفاع معدل التضخم نتيجة لارتفاع أسعار الطاقة.

أما فرنسا، التي عانت من الاحتجاجات والإضرابات العمالية المستمرة، والاضطرابات السياسية، وتنامي اليمين وتشرذم اليسار، فقد تمكنت من استقطاب الشركات العالمية، بما في ذلك الشركات الألمانية، حتى صار الألمان ينظرون بإعجاب إلى التجربة الفرنسية، والسعي إلى الاستفادة منها. كيف انعكست الآية، فصارت فرنسا المثالَ الذي يسعى الألمان إلى تقليده، بينما كان العكس صحيحا قبل عقدٍ من الزمن؟

هناك أسبابٌ عديدة للنهضة الاقتصادية الفرنسية، منها داخلية، ومنها متعلق بالظروف الدولية، التي مكَّنتها من تصدر الدول الأوروبية المستقطِبة للمشاريع الاستثمارية خلال عامي 2021 و2022، وفق دراسة أجرتها مؤسسة (أيرنست أند يانغ) الاستشارية. فرنسا استقطبت خلال عام 2022 وحده، 1250 مشروعا استثماريا، مقارنة مع 800 في ألمانيا و900 في بريطانيا.

الأسباب الداخلية تتعلق بكفاءة الحكومة، فالرئيس إيمانويل ماكرون اقتصادي ذو خبرة، وجاء إلى السياسة من خلفية مالية واقتصادية، إذ تولى منصب المفتش المالي في الدولة، ثم انتقل للعمل في بنك روثتشايلد الشهير، وصار شريكا فيه، إثر نجاحه في إبرام صفقات مالية كبيرة.

وبعد عودة الحزب الاشتراكي الفرنسي إلى السلطة عام 2012، عينه الرئيس فرانسوا أولاند، وزيرا للاقتصاد عام 2014، وبقي في المنصب عامين، لكنه استقال عام 2016، متفرغا للعمل السياسي، فأسس حزب (فرنسا إلى الأمام) من أجل خوض الانتخابات. وعندما شعر الرئيس أولاند بتدني شعبيته وتراجع فرص إعادة انتخابه، قرر، مع معظم أعضاء ومؤيدي الحزب الاشتراكي، دعم ماكرون، لأنه الأقرب إلى توجههم السياسي، ولديه فرصة كبيرة في الفوز على مرشحي أحزاب اليمين، الذين تتصدرهم ماري لابَن.

فاز ماكرون بالرئاسة، في الجولة الثانية بنسبة فاقت 66% على مرشحة (الجبهة الوطنية)، ماري لابَن. وقد شكَّل حكومته، التي غلب عليها طابع خبراء المال والأعمال، وبدأ بعملية إصلاح الاقتصاد القائم على النظم الاشتراكية القديمة، ليجعله اقتصادا حديثا. وطالما تعرض ماكرون لانتقادات شديدة من اليسار واليمين، بسبب تركيزه على إصلاح الاقتصاد ودعمه مشاريع الأعمال التي ينفذها القطاع الخاص، علما أنه لم يتردد في تقديم الإعانات المالية والتسهيلات الضريبية للشركات الجديدة، بما فيها الشركات غير الفرنسية.

 وحسب مجلة الإيكونوميست، فإن شركة (فايفر فاكيوم) الألمانية لصناعة المكائن والمضخات، مثلا، حصلت على إعانة مالية قدرها 20 مليون يورو، مقابل استثمار 75 مليون يورو في إنشاء مصنع في مدينة (أنسي) جنوب شرقي فرنسا. ونقلت المجلة عن مديرة الشركة، بريتا غيسين، قولها إن خبرة الفريق الحكومي الذي يقوده ماكرون أقنعتها بالاستثمار في فرنسا.   

هناك أيضا ظروف خارجية انتفعت منها فرنسا أولاها انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أواخر عام 2020. لقد كانت مدينة لندن المالية من أهم مراكز المال العالمية، وكانت توظف ربع مليون شخص، مقارنة مع باريس، 180 ألفا، وفرانكفورت، 70 ألفا، ودبلن، 30 ألفا.

لكن انسحاب بريطانيا من السوق الأوروبية وفَّر فرصة ثمينة لفرنسا، إذ قررت مئة مؤسسة مالية بريطانية وعالمية، إعادة توزيع موظفيها بين المدن الأوروبية ذات المراكز المالية، كان أبرزها باريس، ومنها مؤسسات عملاقة مثل بنك أمريكا، وبنك (HSBC)، وبنك مورغان ستانلي، وبنك غولدمان ساكس.

والمفارقة أن عقد إصدار جوازات السفر البريطانية الجديدة، قد مُنح لشركة فرنسية-هولندية، هي (Gemalto)، التي تنجز العمل من مقرها في بولندا! والسبب؟ "لأنها أقل كلفة من الشركات البريطانية المنافِسة"، حسب الإعلان الذي نشرته وسائل إعلام عديدة. والمفارقة المضحكة الأخرى، أن والد رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسن، وهو عراب بركسيت، تقدم لنيل الجنسية الفرنسية عقب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي!

استفادت باريس من غياب لندن عن أوروبا، خصوصا في مجالات التمويل والتأمين وإدارة الأصول وسوق تقييم الشركات. كما نقلت شركات عملاقة مصانعها إلى باريس ومدن أخرى. وزير الاقتصاد الفرنسي، برونو لامير، قال إن باريس ستكون مركزا ماليا رئيسيا في أوربا، حسب موقع (كلية الأعمال الأمريكية) في باريس.

الدولة الفرنسية الحديثة ما عادت تعمل وفق خطط حكومية صارمة، حسب نظرية (dirigisme) أو "إدارة الدولة لوسائل الإنتاج"، فاقتصاد السوق هو المعتمَد الآن، والشركات الخاصة تنفذ المشاريع، بينما يقتصر دور الحكومة على طرح الأفكار المتسقة مع برنامجها الاقتصادي، والتي تقود إلى تطوير الاقتصاد، ومناقشتها مع القطاع الخاص، واستقبال آراء الخبراء حولها، ثم تقديم التسهيلات للشركات كي تقوم بتنفيذها.

نعم، توجد خطة (فرنسا 2030)، التي تتضمن إنفاق 54 مليار يورو على إنتاج التقنيات الخضراء، والهيدروجين الأخضر، والمفاعلات النووية التكاملية، والبطاريات، وأشباه الموصلات، والطائرات قليلة الكاربون، لكن هذه الخطة تعتمد في تنفيذها على القطاع الخاص، وأن دور الحكومة سيقتصر على التوجيه والتشجيع وتقديم التسهيلات والمحفِّزات والإعانات المالية.

الحاجة مازالت قائمة لأن تضطلع الدولة في تطوير البنى الأساسية الضرورية للاقتصاد، وكذلك لدعم المشاريع الاستراتيجية، خصوصا الجديدة منها، مثل التقنيات الخضراء المتعلقة بمعالجة التغير المناخي، فالشركات الخاصة قد تتكبد تكاليف إضافية، غير منظورة، بسبب بروز مؤثرات خارجية، أو ما يسمى في الاقتصاد بـ (externalities)، وقد تكون هذه التكاليف باهظة، لذلك لابد من وجود الدولة كضمان، لتطمين القطاع الخاص ومساعدته على تجاوز الظروف المستجدة.

ورغم المصاعب الحالية، تبقى ألمانيا أكبر دولة وأقوى اقتصاد في أوروبا، وتضم أكبر 20 شركة حديثة في القارة، لكنها تضررت بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، لاعتمادها على الطاقة الروسية، بينما لم تتضرر فرنسا، لأنها لا تعتمد على استيراد الطاقة، بل تنتج طاقتها وطنيا، من المفاعلات النووية قليلة التلوث، ومن الطاقة الشمسية. واستنادا إلى مركز بحوث الطاقة النظيفة، (أمبر)، فإن فرنسا تضم مولدات الطاقة الأقل تلويثا للبيئة في العالم.

المشكلة الأخرى في ألمانيا أن حكوماتها ائتلافات سياسية، يكثر فيها السياسيون ويقل فيها الخبراء، بينما حكومة الرئيس ماكرون مكونة من خبراء في المال والاقتصاد والإدارة والطاقة، وهي تتخذ القرارات التي تقود إلى تطوير الاقتصاد وتحديث الدولة، حتى وإن واجهت مصاعب سياسية بسببها، وهذا يفسر كثرة الاحتجاجات في فرنسا.

كانت فرنسا، ومثلها بريطانيا، تتأرجح بين حكومات مختلفة سياسيا، يسارية ويمينية. اليسارية تدير الاقتصاد وفق النهج الاشتراكي، وبعد أن تفشل، وتبرز مشاكل اقتصادية، تفرِز الانتخابات حكومة يمينية، تعيد هيكلة الاقتصاد وفق نظرية رأسمالية معاكسة لبرنامج الحكومة السابقة.

البلدان التي تتعاقب فيها أنظمة متعارضة في برامجها خلال فترات قصيرة، لا تستقر اقتصاديا وسياسيا، إلا في الفترات التي تستمر فيها الحكومة لعقد أو أكثر، كما حصل في بريطانيا في عهد المحافظين اليمينيين، (ثاتشر وميجور)، خلال 18 عاما، والعمال، اليساريين، (بلير وبراون)، خلال 13 عاما، وفي فرنسا خلال حكومتي متران، الاشتراكي، (14 عاما)، وشيراك، المحافظ، (12 عاما).

النظام الفرنسي يسمح بـ"التعايش" بين اليمين واليسار، فيكون الرئيس من حزب، ورئيس الوزراء من حزب آخر، خلال فترات فوز المعارضة في الانتخابات البرلمانية، أثناء وجود رئيس من حزب آخر. أما في بريطانيا فالنظام برلماني يتنافس فيه حزبان رئيسيان، ولكن تُشكل حكومات ائتلافية في أحيان نادرة، عندما لا يتمكن أيٌّ من الحزبين الرئيسيين من الفوز بمقاعد كافية لتشكيل حكومة، كما حصل عام 1977 بين العمال والأحرار، وعام 2010، بين المحافظين والأحرار.

النظام الألماني أكثر استقرارا، رغم تغير الأحزاب المشكِّلة للحكومة الائتلافية. رئيسة الوزراء السابقة، إنجيلا ميركل، مثلا، قادت البلاد لستة عشر عاما، وكانت تقود الاتحاد الديمقراطي المسيحي، اليميني، لكن حكومتها ائتلافية، اشتركت فيها أحزاب أخرى قريبة من اليمين. الحكومة الحالية، حكومة "أضواء المرور" كما يسميها الألمان، مكونة من ثلاثة أحزاب، مطابقة لألوان إشارات المرور الثلاث، الأحمر والأصفر والأخضر، ويقودها أولاف شولتز، الحزب الأكبر فيها هو الحزب الديمقراطي الاجتماعي، اليساري، لكنها ائتلافية، يشترك فيها حزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر، وهما قريبان من اليسار.

ربما من حسن حظ فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي، أن يأتي إيمانويل ماكرون إلى السلطة ويُنتخَب لدورتين. ماكرون اختط نهجاً وسطيا بين اليمين واليسار، فاستقطب ناخبين من الطرفين، وأعاق فوز اليمين المتطرف، بقيادة (الجبهة الوطنية)، التي غيَّرت اسمها إلى (التيار الوطني)، لإضفاء قدر من الاعتدال على سياساتها، المخالفة لمبادئ الجمهورية الفرنسية.

المادة الأولى في الدستور الفرنسي تنص على أن "الجمهورية الفرنسية علمانية، ديمقراطية، اجتماعية، لا تتجزأ". لذلك، لن يستطيع اليمين المتطرف أن ينفذ سياسات عنصرية لأنها تتعارض تعارضا صارخا مع الدستور، الذي طبَّقه الرؤساء الفرنسيون جميعا، يمينيين ويساريين. شارل ديغول، مؤسس الجمهورية الخامسة، وكاتب دستورها، وأول رئيس لها، ينتمي إلى اليمين، لكنه طبق الدستور والتزم مبادئ الجمهورية.

النجاح الاقتصادي الفرنسي لن يكون على حساب ألمانيا، بل سيكون قوة لها وللاتحاد الأوروبي. ألمانيا وفرنسا هما عماد الاتحاد الأوروبي، والركيزة الصلبة التي يقوم عليها، لكن النجاح الفرنسي وحده لن ينقذ الاتحاد الأوروبي، الذي يحتاج إلى أن تعود ألمانيا قوية وقادرة على حل مشاكل الاتحاد الاقتصادية، ودعم الدول الصغيرة والضعيفة فيه، والاستعداد لدخول مرحلة جديدة من التماسك والاندماج.