الصحراء كاهنة تستثمر الصمت، لتحقيق سكونٍ، هو ضمان وحيد، لغاية هي الامتلاء، أملاً في أن تحاجج النزعة التقليدية، التي تسوّقها كخواء، كأنها تردّد الوصيّة، التي تقول: مَن يعمل لا يتكلّم ومن يتكلّم لا يعمل؛ لأن العمل هو تلك الصلاة، التي لا نمارسها، ما لم نطرح عضلة اللسان قرباناً!

فالصمت، في الصحراء، منزلة في معراجٍ هو السكون. الصمت موقفٌ من الكون. الصمت زهدٌ في استخدام العضلة الوحيدة، التي تستبيح بكارة كونٍ، حديث العهد بالتكوين، فينزف، بفعلها، الكون. الصمت محاولةٌ لضبط نشاط هذا المارد، أملاً في استعادة فردوسٍ مفقود، بفضل الوجود، وهو: السكون. لأن السكون حصيلة استواء، استواءٌ يستنزل في الواقع حرمة، بموجب صفقة العهد المبرم بين قرينين حميمين، هما: الزمان والمكان، ليهيمن الحضور، لا في بُعد الوجود، ولكن في البُعد المفقود؛ ولا خلل يبلبل المعزوفة الغيبية، في هذا النظام، سوى تدخّل اللسان، لأن الصوت، في هذا الحرم الصارم، تجديفٌ مُهين. وكتم أنفاس الصوت هو التدبير الوحيد لاستعادة الفردوس الضائع، لأن الصوت، كمعزوفة حرفيّة، تشويشٌ، هرَجٌ، تجديفٌ يدنّس براءة المعزوفة الأخرى، الغيبيّة، معزوفة الأبديّة، التي يرطن بها قرينان، هما الزمان والمكان، استوى بهما المقام في البُعد المفقود، ليمارسا الاستسرار.

فالشهوة إلى الكلم إثمٌ، مادام مَن يتكلّم لا يعلم، ومَن يعلم لا يتكلّم، كما تحرّض ديانات الـ"ثاو"، لأن الصوم عن الطرب فضيلة، بدليل أن الامتثال للسمع سموّ. والسمع خطوة أولى في طريق التحرّر من لعنة اللغو، وتحقيقٌ لخلاصٍ. هذا في حين يتولّى الشجن زمام الأمر، لأنه المعزوفة السريّة، التي لا تعترف بسلطان اللسان ديناً، فتدمن أفيون الاستسرار، المشروط بالحضور في السكون، المسكون بمعزوفة الأوتار المزمومة، ليولد، في المستحيل، إلهام: إلهامٌ مترجم في حرف نبوّةٍ، ليحقّق، باغتراب المنطق المنطوق، السمع. جديرٌ بنا أن نتوقّف هنا، لنتأمّل ما معنى أن نسمع. فالسمع استعارةٌ لا جوهرية وحسب، ولكن حرفية أيضاً، لأن العين في العربية هي همزة مصغّرة، لنكتشف أن فعل "سمع"، ليس سوى "سما"، أي الانتساب إلى بُعْدٍ أعظم شأناً، صار في اللغات حجّةً للتجرّد من دنس الأسافل، وهو الانتساب إلى السماء، بوصفها المستودع في كل ما متّ بصلة لاكتساب القداسة. وأهميّة السمع هنا في قدرته على قمع نشاط العضلة المسمومة، المدعوة في رطانتنا لساناً، لأن الوصيّة المكتشفة الآن تقول: "مَن يتكلّم لا يسمع، ومن يسمع لا يتكلّم". أي أن السمع هو تحجيم سلطة اللسان على الواقع الدنيوي، تمهيداً لممارسة طقس السمع، الذي لن يكون هنا سوى التنصّت، لاستدعاء الوحي. وهو ضربٌ من تجسّس، مشروع في الصعود إلى أعلى، يستعير شرعيّته من وجوب التحرّر من كل ما متّ بصلة للأسافل، وارتياد منازل الخلاص، المقترحة بفضل السفر بمطيّة معراج. في هذه الرحلة تكفّ العضلة الشقيّة عن ممارسة دورها التضليلي، لتتولّى الأذن دور الوسيط في استقطاب الإلهام، ليتغلغل في وجدان المريد، الذي يرابط في البرزخ، منتظراً هبة الزّند، بل حُجّة الزند، المبثوثة في ومضة الشرر، الذي يولد، بعد نزيف مميت، كلحنٍ ناءٍ، في وتر معزوفة شجن، لا تستوي كلقية حلم، إلّا في بُعْد بَعثٍ، هو، في النهاية، صيغة ميلادٍ جديد. ميلاد هو بشارة حرية؛ حرية تنزّلت من رحم الهجرة، وليداً في هوية نبوّة، مشفوعة بنزيف الروح هذه المرّة، كي تسطع الحقيقة في الأنحاء، فيتبدّد من الواقع الخواء، ليهيمن، في الخلوة، امتلاء.

فالصحراء، بالحرف حسب، خواءٌ، ولكنها بدرس الهجرة، هي الامتلاء.