لم يحن بعد أوان إجراء قراءة معمقة لعملية "طوفان الأقصى" وما تبعها، وذلك من أجل تحديد المسؤوليات واستخلاص العبر والدروس من حدث مفصلي غيّر وسيغير وجه المنطقة.
وعلى الرغم من أن الحرب لم تضع أوزراها بعد، وبما أن الهدن المتفق عليها لتسهيل تبادل المحتجزين بين طرفي الصراع لا تشكل وقفا دائما لإطلاق النار، فمن المستحيل الجزم بأنها بداية لنهاية الحرب.
فربما تنتهي هذه الأخيرة بالشكل الذي عرفناه في الأسابيع الستة المنصرمة، لكنها قد تستمر بأشكال أخرى لمدة طويلة.
في لبنان الواقف حتى هذه اللحظة على حافة الحرب، ما من أحد يمكنه التنبؤ بما ستحمله الأيام المقبلة.
ومع ذلك من الممكن اليوم تحديد من الخاسر ومن الرابح في هذه الحرب... بكل صراحة الخاسر هو مشروع الدولة والرابح هي الميليشيا ونعني "حزب الله".
فلقد شكلت حرب غزة فرصة لحزب الله فاستغلتها لكشف ضعف الدولة ومنطقها، كما أنها مكّنت اللبنانيين والمجتمع الدولي من ملاحظة واقع الغياب الفاضح للمستوى الرسمي حيال أخطر الاستحقاقات.
وقد اعترفت الدولة بلسان أعلى مرجعياتها بأنها لا تمتلك قرار الحرب والسلم السيادي، وخصوصا أنه بعدما جرى استنادا إلى موازين القوى تغليب استراتيجية ما يسمى "وحدة الساحات" على الدولة والدستور، ونسف الحدود الوطنية من العراق إلى لبنان تحت علم "فيلق القدس".
ومنذ الثامن من أكتوبر بدا جليا أن الدولة اللبنانية استسلمت بمؤسساتها كافة للأمر الواقع على الحدود اللبنانية الجنوبية مع إسرائيل.
لم يعترض أحد، علما أن منطقة الجنوب اللبناني كانت بالأساس خاضعة لقرار مجلس الامن رقم 1701 الصادر بنهاية حرب عام 2006 الأخيرة بين "حزب الله" وإسرائيل.
وقد نص القرار فيما يتعلق بالمنطقة الحدودية المحاذية للشمال الإسرائيلي حتى عمق 40 كيلومترا داخل لبنان، بأنها يجب أن تكون منزوعة من السلاح ومن كل المظاهر المسلحة، وبأنها أيضا منطقة عمليات يمنع فيها أي وجود أمني أو عسكري غير قوات "اليونيفيل" الدولية ومعها الجيش اللبناني كتعبير عن مبدأ بسط الدولة وسيادتها على أراضيها.
وفي خطابه بتاريخ 3 نوفمبر الجاري قال الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله أن تنظيمه دخل المعركة بمناوشات مسلحة ضد إسرائيل في 8 أكتوبر الماضي، أي بعد 24 ساعة على عملية حماس في غلاف غزة.
وبذلك اعترف علنا أن تنظيمه اتخذ وحده قرارا بدخول معركة عسكرية انطلاقا من لبنان.
وعلى مدى أكثر من 45 يوما تواصلت المناوشات العسكرية موقعة العشرات من القتلى بين مسلحي "حزب الله"، إلى جانب ضحايا بين المدنيين من أبناء الجنوب اللبناني.
ومع أن نصرالله اقر في إطلالتين تلفزيونيتين قال إن حزبه لن يدخل حربا شاملة مع إسرائيل، وإن الأمر لا يعدو كونه مساندة لغزة وحركة حماس ومحاولة لتخفيف الضغط عن قطاع غزة، فإن لبنان كاد أن يستدرج مرتين إلى حرب شاملة مدمرة، لولا التدخل الأميركي الحاسم الذي منع الإسرائيليين بحزم من إشعالها.
لم يكتف "حزب الله" بشن هجمات على مواقع عسكرية إسرائيلية، ومناوشتهم ليلا نهارا غير عابئ بمناخ البلاد والرأي العام الرافض للحرب، بل إنه فتح أبواب منطقة الجنوب لفصائل فلسطينية أهمها "كتائب القسام" التابعة لحركة حماس التي استخدمت الأراضي اللبنانية أكثر من مرة لإطلاق صواريخ على إسرائيل.
والحقيقة أن هذه الهجمات لم تشكل في أي وقت من الأوقات عاملا ضاغطا أو مؤثرا على مجرى العمليات العسكرية في قطاع غزة.
لم تُحدث المناوشات مع الإسرائيليين فرقا يذكر في ميدان القتال في قطاع غزة، لكنها أصابت الدولة الشرعية بأضرار جسيمة، إذ أسقطتها ضحية في اختبار حرب حماس وإسرائيل.
وقد أمكن الجزم أن الدولة اللبنانية أضيفت مع مؤسساتها والقرار السيادي إلى قائمة الخسائر الجانبية لهذه الحرب التي لم تطو صفحتها بعد.
قصارى القول، أن الميليشيا انتهزت فرصة حرب غزة لاستكمال سحق الدولة والقانون والمؤسسات، كالحكومة ومجلس النواب والأجهزة العسكرية والأمنية، ففرضت سطوتها التامة على لبنان، وحولته بالقوة من مشروع وطن ودولة إلى ساحة نفوذ خارجي وصندوق بريد إقليمي. وقد نجحت ويا للأسف. لذلك سيبقى لبنان يترنح على حافة الحرب.