الحمائية التي كانت الدول الرأسمالية تعتبرها عائقا أمام التطور والنمو الاقتصادي العالمي، صارت خلال السنوات القليلة الماضية بديلا للتجارة الحرة، والتعرِفات الجمركية صارت خيارا محبذا لحماية المنتجات الوطنية وتشغيل الايدي العاملة، بعد أن كانت إلى عهد قريب إجراءً غير مرغوب فيه لأنه يشوّه الاقتصاد، ويعيق التجارة الحرة والابتكار، ويكبح التطور القائم على التنافس المنظم.

يحصل كل هذا في عالم اليوم، ليس في كوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا، وإنما في الولايات المتحدة وأوروبا وبريطانيا؟ ما الذي جرى؟ وأين ذهبت مبادئ التجارة الحرة وقوى السوق واليد الخفية، التي بشَّر بها عالم الاقتصاد الأسكتلندي الشهير، آدم سميث؟ وأين موقع منظمة التجارة العالمية من هذه الحمائية الغربية التي صارت "محترمة"، حسب وصف جريدة فايننشال تايمز؟

لقد بدأ عهد الحمائية في أميركا مع تولي الرئيس دونالد ترامب السلطة عام 2017، والذي كان قد روج لمبدأ (أميركا أولا) أثناء حملته الانتخابية عام 2016، واتخذ خطوات عملية في هذا الاتجاه أثناء فترة حكمه، عندما فرضت تعرفات جمركية وقيودا على الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة، والصادرات الأميركية من التكنلوجيا المتطورة إلى الصين.

وقد تزامن ذلك مع حملة المحافظين في بريطانيا للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، والتي حصلت عندما صوتت غالبية صغيرة من الناخبين البريطانيين، (4%)، لمغادرة الاتحاد في استفتاء عام 2016، وتبعه خروج بريطانيا الفعلي مطلع عام 2021. وقد قادت هذه الحملات إلى سياسات حمائية مماثلة في أوروبا، لأن الحمائية بطبيعتها ارتدادية، فعندما تفرض دولة ما إجراءات لحماية المنتج الوطني، فإن شركاءها التجاريين سيلجؤون إلى اتخاذ إجراءات عقابية مماثلة، لحرمانها من الاستفادة من التجارة الحرة.

التعرفات لا تجلب بالضرورة إيرادات إضافية لخزينة الدولة، لأن الإيرادات المتأتية منها، تَحجِب إيرادات أخرى قد تفوقها حجماً وديمومةً، كتلك الناتجة من تقلص الصادرات بسبب الإجراءات الحمائية. مثل هذه الإيرادات الضائعة كان يمكن أن تتحقق عبر تنمية الصادرات وتشجيع التنافس لتحسين الإنتاج الوطني، وهذا ينطبق بالدرجة الأساس على الدول المتقدمة صناعيا، والتي يمكنها أن تحقق تفوقا عبر تطوير صناعات أفضل من المستوردة.

كما لا يمكن التعرفات، أو الإجراءات الحمائية عموما، وحدها، أن تشجع المنتجات الوطنية، أو تعيد التوازن إلى الميزان التجاري، المختل بسبب تفوق الواردات على الصادرات. صحيح أنها تنفع المنتِج الوطني بتعزيز حصته من السوق المحلية، وذلك لارتفاع أسعار المنتجات الأجنبية بالمقارنة، لكن عدم وجود المنافسة لا يشجع التطور والابتكار وتحسين الإنتاج وخفض الأسعار.

كل الذي تفعله التعرفات الجمركية وباقي الإجراءات الحمائية هو أنها تحرم المستهلكين من حرية اختيار الأفضل بين المنتجات المتشابهة، وتدفع المنتجين المحليين إلى الكسل والإهمال وعدم السعي إلى الابتكار وتطوير الإنتاج، أو خفض الأسعار بسبب غياب المنافسين.

الحقيقة أن الإجراءات الحمائية، بالإضافة إلى كبح التطور وتقليص الابتكار، فإنها تتسبب في رفع الأسعار ومعدل التضخم، وأن الذي يدفع ثمنها هم المستهلكون الذي تتجاوز الدولة على حرياتهم في دول تدعي تقديس الحرية والخيارات الحرة للإنسان، وذلك عبر تقييدهم بالمنتجات المحلية، وإن كانت رديئة أو مرتفعة الأسعار.

وتقدِّر دراسة ذكرتها مجلة الإيكونوميست أن كل وظيفة أوجدتها التعرفات الجمركية التي فرضها الرئيس ترامب على الحديد المستورد، تكلِّف مستهلكي الحديد 650 ألف دولار، ما يعني أن التعرفات لا يدفعها الأجانب، كما يتوهم البعض، وإنما المستهلكون المحليون!

الولايات المتحدة التي حاربت الانغلاق والشيوعية والماركسية طوال قرن كامل، تعود القهقرى الآن، وتتبنى، فعليا لا رسميا، مبادئ ماركسية، إذ صارت تؤمن بأن القيمة المضافة تخلقها الأيدي العاملة، بينما النظرية الرأسمالية ترى أن رأس المال هو الذي يولد القيمة المضافة.

الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش (43) قال عام 2001 "إننا سوف نتبادل التجارة بحرية تامة مع الصين، وإن الزمن لصالحنا". هذه المقولة انقلبت الآن، فالزمن كان لصالح الصين، التي دفعت أميركا لاعتناق الحمائية وفرض التعرفات الجمركية على صادراتها. كان بوش يأمل أن يقود الانفتاح الاقتصادي على الصين إلى تغيير نظامها السياسي، بحيث تقترب إلى النظام الغربي الرأسمالي، لكن الذي حصل أن الصين تطورت اقتصاديا بينما ازدادت تمسكا بنظامها الشيوعي، بل حتى الانفتاح السياسي الجزئي الذي حصل في عهد الرئيس السابق، هو جنتاو، مثل تحديد الولاية الرئاسية بدورتين، قد تغير الآن، وألغيت فترة الدورتين وصارت الدولة تتدخل في الاقتصاد، وأكثر مركزية من ذي قبل.

الرئيس جو بايدن أبقى على القيود التي فرضها سلفه على التعامل مع الصين، بل زاد عليها أنه قدم إعانات حكومية بقيمة مئتي مليار دولار لتشجيع الإنتاج الوطني، خصوصا في مجال إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية، التي تهيمن الصين على صناعتها، واستخراج وتصنيع المعادن النادرة، وهي الأخرى تحتكر انتاجها الصين حاليا.

التعرفات الأميركية على السيارات الصينية وصلت الآن إلى 27.5% حسب جريدة الفايننشال تايمز، هذه النسبة مرتفعة جدا، ومع ذلك فإنها قد ترتفع أكثر مستقبلا. المرشح الرئاسي دونالد ترامب، الذي تتزايد حظوظه الانتخابية باستمرار حسب عدد من استطلاعات الرأي، رغم الدعاوى القانونية الإحدى والتسعين، المرفوعة ضده في المحاكم الأميركية، يخطط لفرض 10% إضافية على الواردات من كل بلدان العالم، ما يعني أن الصين والبلدان المتضررة من هذه التعرفة سوف ترد بالمثل. مثل هذه التعرفة سوف تكلف دافع الضرائب الأميركي ألفي دولار سنويا، وفق مجلة الإيكونوميست، ولا شك أنها ستغضب حلفاء أميركا الأوروبيين وغيرهم لأنها سوف تشمل الجميع.

وإذا ما فاز ترامب، وهذا لم يعُد مستبعدا، فإنه سيحدِث تغييرا مربِكا لكل دول العالم، ومن المحتمل أن يتمكن من تنفيذ كل ما يؤمن به، خصوصا وأن الغالبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ لا تتعدى مقعدا واحدا. ويرى مراقبون أن روسيا ستكون المستفيد الأول، لأنه سيعقد معها صفقة حول أوكرانيا، إذ وعد بإيقاف الحرب خلال 24 ساعة! أما حلفاء أميركا الأوروبيون فسيجدون أنفسهم تحت رحمة روسيا، خصوصا وأنهم لم يستعدوا حتى الآن للاعتماد على أنفسهم في قضايا الدفاع، علما أنهم رفعوا إنفاقهم العسكري بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.

الأوروبيون أيضا يفكرون بفرض تعرفات على السيارات الكهربائية الصينية (BYD)، إذ صدر توجيه بإجراء تحقيق حول احتمال حصول صناعة السيارات الصينية على إعانة مالية من الدولة. وإنْ لجأ الأوروبيون إلى رفع التعرفات على السيارات الصينية، فإن الصين سترد بالمثل، وقد رد الصينيون بغضب على التحقيق الأوروبي، ووصفوه بأنه "حمائية سافرة"!

وتبلغ التعرفة الأوروبية على الصادرات الصينية حاليا 10%، وهي نسبة معقولة، إذا ما قورنت بنظيرتها الأميركية، لكنها إذا ما ارتفعت، وهذا محتمل، إن تأكد الأوروبيون أن الصين تقدم فعلا إعانات مادية لصناعة السيارات الكهربائية، فإنها ستربك العلاقة التجارية بين الصين والاتحاد الأوروبي، وتؤثر سلبا على الصادرات الأوروبية للصين، المتراجعة أصلا.

المد اليميني في أوروبا، خصوصا في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، يتصاعد، وهناك ضغوط شعبية لفرض تعرفات على استيراد السيارات الكهربائية الصينية لأنها بدأت تؤثر على سوق السيارات الأوروبية، التي توظف 6% من الايدي العاملة في الاتحاد الأوروبي، حسب المفوضية الأوروبية.

لكن الأوروبيين بحاجة للسيارات الكهربائية الصينية لأنها صديقة للبيئة، وتدخل ضمن التوجه العالمي لتقليص التلوث ومعالجة التغير المناخي. كما أن الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة ساهمت في خفض معدل التضخم واستفاد منها المستهلكون، لكنها، حسب جريدة الفايننشال تايمز، ساهمت في تقليص الإنتاج الصناعي في أميركا وتزايد الهوة بين الأثرياء والفقراء، وهذا التفاوت ساهم في بروز ظاهرة ترامب اليمينية، حسب الجريدة.

بعبارة أخرى، أن قبول الصين في منظمة التجارة العالمية عام 2001، الذي عزز قوتها ونموها الاقتصادي، كان يهدف إلى تعزيز فرص الانفتاح والديمقراطية في الصين، لكن العكس قد حصل، فالديمقراطية في أميركا صارت الآن في خطر، وقد حصل خلاف حاد حول نتائج الانتخابات، إذ أصر الرئيس ترامب، ومازال مصراً، بأن الحزب الديمقراطي "سرق الفوز"، وهذا يحصل لأول مرة في التأريخ الأميركي الحديث.

ويرى صندوق النقد الدولي أن التعرفات الجمركية الصينية والأميركية التي بدأت عام 2018، لم تتسبب في تقليص التجارة الإجمالية العالمية، بل قلصت التجارة بين أميركا والصين فقط، بينما وجدت البضائع والسلع طريقها إلى بلدان أخرى. كما أن حرب التعرفات لم تمنع دول الاتحاد الأفريقي والدول الأعضاء في منظمة آسيان، وأعضاء الاتفاقية التقدمية الشاملة للشراكة عبر المحيط الهادئ CPATPP، من إبرام اتفاقيات تجارية إقليمية أو متعددة الأطراف.

الإجراءات الحمائية المتصاعدة سببها الخوف من الصين، التي استخدمت ثروتها الطائلة للتسلح، وتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي، وبدأت تهدد تايوان وتدعم روسيا وكوريا الشمالية وإيران، وتجري مناورات عسكرية قرب القوات الأميركية في بحر الصين الجنوبي، وتبحث عن دول في آسيا والشرق الأوسط كي تتحالف معها.

الانفتاح الأميركي والغربي على الصين جاء بنتائج معاكسة. ولكن ليس صحيحا أن يعود العالم القهقرى، بعد كل هذه الإنجازات التي حققتها العولمة والتجارة العالمية، بسبب خطأ سياسي أميركي. خشية الغرب من الصين مبررة، خصوصا مع تنامي قوتها العسكرية، ولكن ليس صحيحا أو مجديا التعامل معها عبر إجراءات تتعارض مع المبادئ الأساسية التي يعمل بها الغربيون لعقود عديدة وساهمت في تقدمهم، ألا وهي الانفتاح والتنافس والابتكار والتبادل التجاري، الذي تنظمه لوائح منظمة التجارة العالمية.