اعتبر كثيرون أن رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك أقال وزيرة الداخلية المثيرة للجدل والشقاق سويلا بريفرمان بسبب تصريحاتها ضد مسيرات المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة. حتى أن بعض المعلقين العرب تغنوا بالديموقراطية البريطانية وبتأثير ضغط الرأي العام وما إلى ذلك.
كما أن مئات الآلاف من البريطانيين أيضا شعروا بالنشوة على أساس أن اعتراضهم على الوزيرة وتصريحاتها، التي اعتبرها البعض عنصرية، كان وراء إقالتها وأن الحكومة تصرفت تحت ضغط آراء الناس. وكانت البهجة واضحة جدا، ليس فقط على وجوه المحللين الضيوف بل على وجوه أغلب الإعلاميين في بريطانيا وهم يغطون خبر إقالة الوزيرة.
ربما لم تشعر الشرطة البريطانية بذلك القدر من النشوة، رغم أن الوزيرة طالما انتقدت قائد شرطة العاصمة لسماحه بمسيرات فلسطين بل وحرضت عليه جماعات العنف من اليمين المتطرف لتخرج وتهاجم قوات الشرطة في لندن. ذلك أن الشرطة تعرف أن السياسيين لا يختلفون كثيرا عن بعضهم البعض، وبما أنها جهة تعمل في إطار القانون فما يهمها هو الالتزام به وهو ما لم يعد الوضع السائد منذ صعود التيار اليميني المتشدد في حزب المحافظين وتحديدا مع بوريس جونسون.
ومع الاعتذار عن إحباط كثيرين، فإن تلك النشوة غير مبررة على الإطلاق. فرئيس الوزراء لم يطرد بريفرمان من حكومته لأنها هاجمت المتظاهرين، ولا حتى مهاجمتها الشرطة. ونقلت وسائل الإعلام البريطانية عن مكتب رئاسة الوزراء أن السبب الحقيقي لإقالة وزيرة الداخلية هو تصريحاتها السابقة عن المشردين الذين ينامون في شوارع لندن والتي اعتبرت دعوة للتخلص منهم (قتلهم بردا وجوعا).
وحتى لا يتصور كثيرون أن الحكومة البريطانية ذات قلب إنساني مرهف، يعنيها كثيرا بضع مئات من المشردين الذين غالبا لا يصوتون في الانتخابات، نقول أن ذلك التصريح حول سبب الإقالة الحقيقي ليس سوى تسريب غير صحيح تماما للاستهلاك المحلي فقط.
أما استجابة الحكومة لأي ضغط شعبي أو رأي عام أو حتى مظاهرات واحتجاجات فلا مجال لها أصلا. أولا حكومة ريشي سونك ليست حكومة منتخبة، صحيح أن حزب المحافظين الحاكم لديه أغلبية برلمانية منذ آخر انتخابات عامة قبل أكثر من أربع سنوات لكنها أغلبية حصل عليها بوريس جونسون. وحين استقال، اختار الحزب في انتخابات لأعضائه فقط (بضعة آلاف) ليز تراس لتخلفه. وحين استقالت حكومة تراس بعد ستة أسابيع فقط في السلطة لم يجر الحزب حتى انتخابات بين أعضائه وإنما اختار نوابه ريشي سوناك ليشكل الحكومة. فهي إذا حكومة لا علاقة لها بالديموقراطية ولا غيرها.
ثانيا، وزيرة الداخلية المقالة كانت وزيرة داخلية في حكومة تراس وأقيلت في أيامها الأخيرة لانتهاكها مدونة السلوك للمسؤولين الرسميين. ومع ذلك أعادها سوناك للوزارة بمجرد توليه السلطة. ثم إنها معروفة، حتى لزملائها في حزب المحافظين، بإثارة الخلاف والجدل والمزايدات التي تصل إلى حد الشطط أحيانا. وبالتالي فسوناك لم ينخدع فيها ويكتشف مشاكلها الأسبوع الماضي.
ثم إن مواقفها من الحرب على غزة لا تختلف إطلاقا عن موقف سوناك نفسه ولا وزير خارجيته السابق الذي خلفها في الداخلية جيمس كليفرلي. والكل يعرف أنها متزوجة من جنوب إفريقي أبيض يهودي صهيوني كما قالت عنه هي ذات مرة علنا وبفخر.
سويلا بريفرمان كانت ممثل الجناح اليميني المتشدد في الحزب الحاكم، ويدعمها بالأساس واحد من أسوأ السياسيين في تاريخ المحافظين هو جاكوب ريس – موج الذي يكن حقدا كبيرا على ريشي سوناك. وتظن بريفرمان أنها تستحق رئاسة الحكومة، وتعمل منذ فترة على تجميع عدد كاف من نواب الحزب لسحب الثقة من سوناك. وتيارها المتطرف يقارب ربع الكتلة البرلمانية للمحافظين.
ومنذ الصيف، لم يعد سوناك قادرا على التعامل معها مع زيادة صلفها وعنجهيتها كل يوم. ولأنه ورث حكومة لم يختر كل أعضائها، إذ اضطر لضم عدد من الوزراء للمواءمة بين الكتل المختلفة داخل حزبه فهو يعمل منذ فترة على تشكيل وزاري من أهل الثقة الذين يطمئن إلى ولائهم له. وذلك لأنه ليس لديه ما يخسره قبل دخول الانتخابات العامة في شهر مايو من العام القادم.
هذا على ما يبدو السبب الحقيقي للتخلص من سويلا بريفرمان ووزيرة البيئة تيريز كوفي. أما إتيانه برئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون إلى الحكومة فيستهدف كسب تيار يمين الوسط في الحزب. وسواء نجح سوناك في مسعاه السياسي أم لا فإن حظوظ حزبه الانتخابية ليست جيدة على أي حال.
لكن المهم، أن وزيرة الداخلية لم تطرد من الحكومة لأي سبب يتعلق بحرب غزة ولا فلسطين ولا حتى لفعالية الديموقراطية البريطانية ولا اهتمام السياسيين الحاليين في السلطة بحقوق الإنسان أو الرأي العام وربما ولا حتى القانون.