بتوقيت البعد الوطني جاء تاريخ 26 يوليو 1956 ليقف الزعيم جمال عبد الناصر في مدينة الإسكندرية معلناً تأميم قناة السويس لتكون تحت السلطة السيادية الكاملة لجمهورية مصر العربية.
إعلان غيّر وجهّ المنطقة والشرق الأوسط للأبد فالقرار الذي وضع حدّاً فاصلاً بين الاستعمار الأجنبي والدول الوطنية كان أعمق بكثير من تقديرات حتى المصريين الذين كانوا يدفعون باتجاه تسريع جلاء بريطانيا عن بلادهم، تلك التقديرات أعيدت قراءتها وتقييمها بعد العدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر 1956 واستهدفت فيه القوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية المدن المصرية على قناة السويس، العدوان منح القيادة المصرية النظر إلى الخارطة بعيون أوسع فإذا بقناة السويس مرتبطة جيوسياسياً بباب المندب الذي كان خاضعاً للاستعمار البريطاني.
بنهاية العدوان الثلاثي قرر جمال عبد الناصر دعمه المطلق للجبهة القومية في مدينة عدن باعتبار حيوية الممرات المائية، دفع المصريون بكل قوة في اتجاه دعم ثورة 14 أكتوبر 1963 بالجنوب العربي ومع ذلك التوجه ظهر للمرة الأولى تاريخياً تعريف "الأمن القوميّ العربي" بواحدية الأمن والمصير المشترك، حصلت الجبهة القومية على السلاح الذي مكنّها من تصعيد مقاومة الاستعمار البريطاني، الجنوبيون خاضوا معارك ضارية أجبرت الإنجليز على اتخاذ قرارهم بتسريع الجلاء عن مستعمرة عدن والمحميات الشرقية الذي كان مقرراً في 9 يناير 1968 لترضخ بريطانيا لضغط الثوار في عدن وأنحاء الجنوب العربي وتسلم وفدّ الجبهة القومية قرارها بالجلاء في 30 نوفمبر 1967 وفيه أعلن الاستقلال لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية قبل أن يتم اعتماد مسماها بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
قرار جمال عبد الناصر حقق عملياً مفهوماً قوميّاً استراتيجياً فاستقلال الجنوب أسهم بدفع البريطانيين لتسريع جلائهم الكامل عن مستعمراتهم في شرق قناة السويس، وهو ما منح الفرصة المواتية لدول الخليج العربية لتعلن استقلالها الوطني توالياً، العدوان الثلاثي وإن تحمل الشعب المصري تبعاته بصمودهم فهو منح جزءا حيويا من العالم العربي الحرية والاستقلال، مفهوم الأمن القوميّ العربي بقيّ منذ ذلك الوقت واحداً لا يتجزأ وهذا ما تعيّن على الجنوب أن يقوم به في حرب الاستنزاف كذلك بإشراف مصري، وهو ما ذهب إليه الجنوب في حرب أكتوبر المجيدة 1973 بإغلاقهم لباب المندب إسهاماً عسكرياً في إسناد الجيش المصري الذي استطاع عبور جدار بارليف المنيّع وتوفير الغطاء اللازم للجيش السوري في جبهة الجولان.
وبعد أكثر من ستة عقود من قرار جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس نبدو أمام لحظة أخرى مشابهة لها بعد أن أطلقت جماعة الحوثي الإرهابية صواريخها وطائرتها المسيّرة لاستهداف إسرائيل، تعريض الأمن الحيوي المصري لتهديدات إرهابية والمصريون يواجهون قرارات إسرائيلية بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء يعدّ تهديداً مباشراً لعمق الأمن القوميّ العربي بمقتضيات التعريف الناصري للأمن العروبي، التحولات اقتضت فهماً واقعياً لمهددات الأمن باعتبار أن الإرهاب الراديكالي أصبح فعلياً من بعد العام 1979 مهدداً وجودياً للأوطان العربية وهو ما اقتضى معه حروباً مضادة لمواجهته في أكثر من بلد عربي.
امتلاك جماعة أيديولوجية أسلحة بعيدة المدى وترسانة من القوة الصاروخية المهددة للملاحة الدولية في البحر الأحمر وبحر العرب تقتضي تكراراً لقرار جمال عبد الناصر بدعم القوى الوطنية في الجنوب العربي وتمكينها سياسياً وعسكرياً للحصول على توازن الردع الحربي بين شطري اليمن، واقعية المشهد تفرض تقييماً صحيحاً للتهديدات الخطرة التي تضع العالم العربي أمام مشهدية العدوان الثلاثي وواحدية الأمن القومي فلا يمكن أن يكون هناك أمن للبحر الأحمر دون سلامة باب المندب وبحر العرب، التعامل مع خطر امتلاك الحوثي لعاصمة اليمن الشمالي صنعاء يعني إلزاماً منح عاصمة الجنوب عدن سيادتها الوطنية لردع الخطر الحوثي وتحجيمه وكما تحقق استقلال الأوطان بجلاء المستعمر البريطاني باستقلال الجنوب الأول سيكون أمنّ الأوطان باستقلال الجنوب الثاني، وهذا لو كان الزعيم عبد الناصر حيّاً لقام به، فرحمك الله أيها الخالد في الوجدان والأوطان للأبد.