الموقف الذي أعلنه زعيم حزب العمال البريطاني، السير كير ستارمر، بخصوص الحرب بين إسرائيل وحماس أثار موجة واسعة من الاستياء داخل حزب العمال، وأدى إلى استقالة العشرات من أعضاء الحزب، المشتركين في الحكومات المحلية، وإعلان العديد من أعضاء حكومة الظل التي يقودها، مواقف مخالفة لموقف زعيمهم.

لكن موقف ستارمر، وهو القانوني المتمرس، الذي شغل منصبا رفيعا في الادعاء العام البريطاني لعشر سنوات، وكان مديره لخمس منها، إضافة إلى رئاسة خدمة القضاء الملكي، ونال لقب (سير)، نتيجة لتميزه في عمله، يمكن تفهمه في ضوء الاتهامات بـ"معادة السامية" التي طالت حزب العمال في عهد سلفه، جرمي كوربِن، والتي أدت إلى استقالة العديد من أعضاء الحزب اليهود، وساهمت، بين أسباب أخرى، في تدني شعبيته وبقائه خارج السلطة 13 عاما.

لقد رافقت تهمة "معاداة السامية" حزب العمال البريطاني منذ تأسيسه، رغم أن العديد من قياداته كانوا من اليهود مثل زعيم الحزب الأسبق، أد مليباند، وأخيه وزير الخارجية الأسبق، ديفيد مليباند، ووزير الخارجية الأسبق، جاك سترو، والوزير والنائب السابق جيرالد كوفمان ووزير التجارة الأسبق بيتر ماندلسون. وبسبب هذه التهمة، تطور حذر شديد لدى قيادات الحزب بمرور الزمن عند التعامل مع هذه المسألة، وهذا الحذر جعله يراقب بعناية سياساته وإجراءاته وتصريحات قادته وأعضائه المتعلقة بإسرائيل واليهود عموما، كي لا تُفسر بأنها معادية للسامية.

ورغم أن انتقاد اليهود، أو معاداة السامية، كانت مألوفة في بريطانيا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وهناك العديد من الآراء العلنية للعديد من السياسيين المنتقدة لليهود، خصوصا تلك المتعلقة باتهامهم بتمويل (حرب البور) في جنوب أفريقيا، ومنها مثلا ما قاله مؤسس حزب العمال، كير هاردي، الذي اتهم المصارف اليهودية بأنها "جزء من تحالف امبريالي للترويج للحرب"، وفق ما ذكره البروفيسور روبرت سولومون ويستريتش، أستاذ التأريخ اليهودي والأوروبي في الجامعة العبرية في القدس، في كتابه (من التذبذب إلى الخيانة-ص 203-205)، فإن ذلك لم يشكِّل مشكلة سياسية في تلك الفترة، إذ لم تكن هناك قوانين صارمة تمنع مثل هذه الآراء.

أحد أهم سياسيي حزب العمال، وهو أيرنست (ناي) بفين، الذي يعتبر مؤسس نظام دولة الرفاهية، وشغل منصب وزير الخارجية في الفترة 1945-1951، كان يؤيد توطين اليهود في أوروبا، وقد قال ذات مرة إن دعم أميركا لهجرة اليهود إلى فلسطين هو لأن الأميركيين "لا يريدون يهودا كثيرين في نيويورك"، وفق ما ذكره المؤرخ بيتر ويلر، في كتابه المعنون (أرنست بفين) - (ص 75 و170 وما تلاها)!

واستنادا إلى ويلر، فإن حزب العمال البريطاني كان من المؤيدين لإسرائيل وأن قادة إسرائيل الأوائل كانوا محسوبين على اليسار، وقد شكلوا (حزب العمل) على غرار حزب العمال البريطاني، وكان قادة الأخير يأملون في أن تتحول إسرائيل إلى دولة اشتراكية قادرة على التأثير سياسيا في المنطقة كلها.

ولكن، يمكن القول إن عهد جرمي كوربِن كان الأكثر اضطرابا فيما يتعلق بعلاقة الحزب باليهود، إذ كتب كبير حاخامات بريطانيا، أفرايم مرفيس، على غير العادة، في جريدة التايمز بتأريخ 26 نوفمبر 2019، قبيل الانتخابات، قائلا إن "معاداة السامية سمٌّ أقرته القيادة العليا لحزب العمال" وإن اليهود البريطانيين قلقون من احتمال مجيء حكومة يقودها جرمي كوربِن، مضيفا أنه "لا ينصح الناخبين كيف يصوتون، لكن الطريقة التي تعاملت بها قيادة حزب العمال مع العنصرية ضد اليهود تتنافى مع القيم البريطانية التي نفتخر بها، وهي الكرامة واحترام الناس جميعا"!

وقد حظي الحاخام، حسب مصادر، بتأييد لموقفه هذا من كبير أساقفة كانتربري، جستن ولبي، والمجلس الإسلامي البريطاني، والمجلس الهندوسي في المملكة المتحدة، رغم عدم القبول بكل ما قاله.

كما استقال العديد من أعضاء الحزب ونوابه احتجاجا على التمييز ضد اليهود داخل الحزب. ووصفت النائبة العمالية اليهودية، مارغريت هودج، جرمي كوربِن، بأنه "عنصري ومعادٍ للسامية"، وفق مجلة (سوشليست ووركر، في 21/8/2018)! وقد نقلت جريدة الإنديبندنت في 20/8/2017 أن استطلاعا للرأي بين اليهود البريطانيين أظهر أن أكثر من 80% منهم يعتقدون بأن حزب العمال "متسامح مع نزعة معاداة السامية بين صفوفه". ويتجاوز عدد اليهود البريطانيين 277 ألفا حسب بيانات الوكالة اليهودية، و271 ألفا، حسب معهد أبحاث السياسة اليهودية.

ولكن في مقابل كل هذه الاتهامات والآراء التي تلوم قيادة حزب العمال وتنتقص منه، تلقّى الحزب وزعيمه كوربِن، تأييدا من اليهود البريطانيين اليساريين. جماعة (جوداس) اليهودية اليسارية، قالت إن مزاعم "معاداة السامية" تهدف إلى الإساءة إلى حزب العمال ووصفتها بأنها "صيحة مزورة، مطعمة بالدجل والانتهازية"، وفق صحيفة (ستاندارد) في 3 أبريل 2018. كما وصفت الجماعة ربط كوربِن بمعاداة السامية بأنه "استغلال مضحِك لأناس يوالون حزب المحافظين والجناح اليميني لحزب العمال".

كما أصدر مئتا يهودي من أعضاء ومؤيدي حزب العمال بيانا نشرته جريدة الغارديان في فبراير 2019 قالوا فيه إن حزب العمال في ظل زعامة كوربِن "حليف مهم في مكافحة التعصب والرجعية، وأن كوربِن يدعم باستمرار المبادرات التي تناهض معاداة السامية". بينما قال رئيس البرلمان البريطاني السابق، جون بيركو، وهو يهودي ينتمي إلى حزب المحافظين، في مقابلة مع مجلة (GQ) بتأريخ 8/11/2019، إنه لم يلاحظ أي مشاعر معادية لليهود بين أعضاء حزب العمال، وإنه يعرف جرمي كوربِن لـ22 عاما ولا يعتقد بأنه يعادي السامية.

لم تهدأ العاصفة حتى بعدما شكَّل كوربِن لجنة للتحقيق في مزاعم معاداة السامية، برئاسة الخبير القانوني، شامي تشاكرابارتي، والتي برأت الحزب من التهمة، لكنها قالت إن هناك "جواً مسموماً وبعض التعاملات الجاهلة" بين أعضاء الحزب. اعتذر جرمي كوربِن، وكذلك بعض أعضاء قيادة الحزب، عبر البرنامج الصباحي في قناة (ITV)، في 3/12/2019، وأعادت بثه جريدة الغارديان، عن نزعة "معاداة السامية"، في حزب العمال، وقال إنه يتفق مع الحاخام ميرفيس بأن معاداة السامية سم وإنه تعامل معها بقوة، لكن الاعتذار لم ينفعه على ما يبدو، إذ خسر في الانتخابات خسارة مدوية، وقدم استقالته، كما هو متوقع من أي زعيم خاسر، فاسحاً المجال لقيادة جديدة.

وفي 20 أبريل من عام 2020، انتخب حزب العمال، وسط أجواء الهزيمة الانتخابية والتناحر والتشتت التي عمت الحزب، السير كير ستارمر، زعيما له، وكان على الزعيم الجديد أن يوحِّد الحزب ويبرئه من تهمة "معاداة السامية"، بالأفعال لا بالأقوال، وأن يُعِدَّه للفوز في الانتخابات المزمع إجراؤها في يناير 2025، كموعد أقصى. وقد بدأ ستارمر عهده بالتصريح بأن "معاداة السامية وصمة عار على حزب العمال" وأنه عازم على اجتثاثها كليا.

وفي 20 أكتوبر 2020، أصدرت مفوضية "المساواة وحقوق الإنسان" المستقلة تقريرا يظهِر وجود نزعة "معاداة السامية" في حزب العمال، ويتهم قيادة الحزب بالفشل في معالجتها. كما دان التقرير الحزب بمخالفة "قانون المساواة" المتعلق برئيس بلدية لندن السابق، كن ليفنغستون، مع عضو آخر، هو بام بروملي، اللذين "مارسا مضايقة لليهود خلافا للقانون". لكن التقرير أقر بوجود "تحسن" في معالجة الشكاوى بهذا الخصوص.

ومن الإجراءات التي اتخذها الحزب هو تعليق عضوية جرمي كوربِن في الحزب لمدة ثلاثة أسابيع، وعندما انتهت المدة، رفض ستارمر إعادة الاتصال الحزبي لكوربِن، ما يعني أنه لم يعد ممثلا لحزب العمال في مجلس العموم، فصار يجلس كعضو مستقل. كما فصل الحزب بام بروملي، بينما استقال كن ليفنغستون أثناء سريان التحقيق بقضيته، وقد خص التقرير كليهما باللوم.

هكذا كان وضع حزب العمال عندما تسلم كير ستارمر قيادته عام 2020، لذلك كان حذِرا جدا في التعامل مع القضايا المتعلقة باليهود، وعندما وقعت الحرب بين إسرائيل وحماس، كان أمامه خياران. إما أن يدعو إلى وقف إطلاق النار، ويدين القصف الإسرائيلي للسكان المدنيين، وبذلك يشذ عن مواقف حكومات أوروبا وأميركا، التي ساندت إسرائيل، وفي الوقت نفسه يخاطر بتجدد اتهامات "معاداة السامية"، التي مزقت الحزب سابقا وأضرت بسمعته وقلصت شعبيته، والتي استطاع التخلص منها بصعوبة.

أو أن يسلك طريق الانسجام مع مواقف باقي الدول الأوروبية، ويتجنب الاتهام بمعاداة السامية، الذي كان سيتهم به على الأرجح، خصوصا من قبل خصومه السياسيين من المحافظين والمتشددين والمساندين لإسرائيل. فاختار الطريق الأسهل والأسلم، أو هكذا توهم، فموقفه هذا أثار استياء شريحة واسعة من حزب العمال ومن الشعب البريطاني عموما، خصوصا بين المؤيدين لقضية الشعب الفلسطيني، وبين المسلمين الذين يقارب عددهم 4 ملايين، ويصوت معظمهم لحزب العمال، وكذلك بين اليساريين والمتعاطفين مع مأساة السكان المدنيين في غزة، الذين يتساقطون بالآلاف، بين قتلى وجرحى.

كان حزب العمال يتقدم بفارق واسع في استطلاعات الرأي على حزب المحافظين، وقد بدا الفوز في الانتخابات المقبلة وكأنه أمر مفروغ منه، لكن موقف الحزب الأخير من الحرب في غزة قد يفقده بعض التأييد الذي يحتاجه لتحقيق فوز مؤكد في الانتخابات المقبلة.

لن يفرط كير ستارمر بفرصة الفوز في الانتخابات المقبلة، خصوصا مع تدني شعبية حزب المحافظين، لكن التوفيق بين عدم المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة، وكسب الناخبين المسلمين والمتعاطفين البريطانيين مع الفلسطينيين، لن يكون سهلا.
وعلى الرغم من أن ستارمر كرر في خطابه في "تشاتام هاوس" في 31 أكتوبر الماضي، مطالبته بـ"توقفات" في الهجوم الإسرائيلي للسماح بالإغاثة الإنسانية، وتجنيب الفلسطينيين المعاناة، وتقديم ضمانات واضحة بعودة النازحين إلى منازلهم في غزة سريعا، إلا أن ذلك ليس كافيا، على ما يبدو، لإرضاء كثيرين بين أعضاء حزب العمال ومؤيديه.

من المتوقع أن يتقدم الولاء للحزب بين مؤيديه على أي خلاف حول السياسة الخارجية، وإن تضررت شعبية الحزب بسبب موقفه من الحرب في غزة، فإن الضرر لن يكون كبيرا على الأرجح، بحيث يؤثر على فرص فوزه في الانتخابات المقبلة.