أوروبا، القارة التي قادت العالم إلى الأنوار والعلم والصناعة، وأنتجت امبراطوريات عملاقة امتدت على القارات الخمس، لم تعد بالأهمية التي كانتها، أو التي تستحقها.
تسمى أوروبا "العالم القديم"، الذي يضم أيضا قارتي آسيا وأفريقيا، وقد جاءت التسمية لتمييزها عن العالم الجديد، وهو قارتا أميركا الشمالية والجنوبية. ورغم ثرائها وتقدمها العلمي والصناعي، ورخائها اقتصاديا وتطور شعوبها اجتماعيا، ومحاولتها التوحد منذ ثمانين عاما، إلا أنها مازالت ضعيفة. لقد أضعفت نفسها بالحروب سابقا، إذ أدخلت العالم في حربين عالميتين مدمرتين في القرن الماضي، راح ضحيتَها الملايين من سكان المعمورة، ثم بالجدل والتناحر لاحقا.
وقد ظل التناحر يلاحقها حتى الآن، رغم أنه صار سلميا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والفضل ربما يعود لتجريد أقوى دولة فيها، وهي ألمانيا، من قوتها العسكرية، وحظر الأيديولوجية النازية، وانحسار قوة بريطانيا العظمى، بعد اضمحلال الإمبراطورية واستقلال المستعمرات، ونزول الإنجليز من أبراجهم العاجية إلى الواقع، وانشغال فرنسا بمشاكلها الداخلية، من الإضرابات المتكررة إلى الصراع الحامي الوطيس بين اليمين واليسار، والذي ينذر بسيادة اليمين، ما يدخل فرنسا في صراع داخلي مدمر.
في مطلع التسعينيات، اندلعت الحروب العرقية في دول البلقان، وارتكبت أفظع الجرائم بحق شعب البوسنة والهرسك، المختلف دينيا وعرقيا عن شعوب أوروبا، لكن الدول الأوروبية ظلت تتفرج لأربع سنوات عجاف، وكأن الأمر لا يعنيها، وربما كان قادتها يأملون بأن تنتهي تلك الحروب دون تدخل منهم. لكن (ملحمة البلقان) لم تنتهِ، وهذا هو الاسم الذي أطلقه عليها ديفيد أوين، وزير الخارجية البريطاني الأسبق ورئيس المؤتمر الدولي حول يوغسلافيا السابقة، في كتابه الذي حمل العنوان نفسه، حتى أرسل الرئيس الأميركي، بيل كلنتون، طائراته عبر المحيط الأطلسي لضرب الصرب وإيقاف طغيان قادتهم عند حده، فتوقفت (الملحمة) واستقرت دول البلقان، وتنفس مسلمو البوسنة والهرسك الصعداء وصار علي عزت رئيسا لدولة متماسكة مستقرة.
كما اختلفت الدول الاوروبية على قضية أوكرانيا، فبعضها مؤيد بقوة لاستقلالها، مثل بولندا ولاتفيا وإستونيا ولتوانيا، لكن دولا أخرى، مثل هنغاريا وسلوفاكيا وبلغاريا، ظلت تراوح بين قربها من روسيا وعضويتها في الاتحاد الأوروبي، ولولا وقوف أميركا وبريطانيا ضد روسيا، لتذبذبت الدول الأوروبية في مواقفها واتخذت مواقف وطنية متباينة.
كانت دول الاتحاد الأوروبي تستورد 45% من احتياجاتها من الغاز من روسيا قبل فبراير 2022، بينما كانت ألمانيا، أكبر دول الاتحاد، تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 55%، استنادا إلى بيانات المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. وقد واجهت دول الاتحاد صعوبات جمة في التخلي عن الغاز الروسي، وتسبب ذلك بحصول أزمة في الطاقة، إضافة إلى ارتفاع معدل التضخم في دول الاتحاد.
أما فرنسا فمازالت تتخبط في مواقفها التي تتغير فصليا، فمرة تتخذ مواقف مختلفة عن الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، ومرات أخرى تغازل روسيا والصين بالقول إن على أوروبا أن تبتعد في مواقفها عن الولايات المتحدة. وبينما يطالب الاتحاد الأوروبي بوقف القتال في غزة، وإن مؤقتا، تدعو فرنسا إلى "إنشاء تحالف دولي ضد حماس"، إذ بزت حتى إسرائيل في هذا الموقف الذي أعلنه ماكرون في تل أبيب أخيرا!
وقد تجلى ضعف أوروبا مرة أخرى أثناء مناقشة قادة الاتحاد الأوروبي للموقف من الحرب في غزة، إذ ظل زعماء الدول السبع وعشرين، يتجادلون حول أي الصيغتين سيستخدمون في بيانهم الختامي، هل هي صيغة الجمع أم المفرد لكلمة (توقُّف)، من أجل تجنيب المدنيين في غزة ويلات الحرب!
النمساويون والتشيكيون والألمان أرادوها بالجمع، أي توقف لبضع ساعات يوميا أو كل بضعة أيام للسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى السكان، ثم تعود إسرائيل إلى قصف الأحياء السكنية، "دفاعا عن نفسها" طبعا، بينما أرادها الأيرلنديون واليونانيون والبرتغاليون والإسبان مفردة، كي تتوقف الحرب نهائيا، من اجل أن يتنفس شعب غزة الصعداء ويتفرغ لدفن القتلى وإخراج المحاصرين أو المدفونين تحت الأنقاض، وترميم المنازل وإعادة الخدمات الأساسية.
وفي النهاية انتصر أصحاب الجمع على المفرد، لأنهم يمتلكون المال، بينما امتلك الآخرون المبادئ والضمير، لكن هذه البضاعة لم تعد نافعة في عالم اليوم. وسواء تبنوا الجمع أم المفرد، فلن يستمع أحد إلى الاتحاد الأوروبي، لأنه مفكك ولا يمتلك القدرات العسكرية أو الإرادة السياسية لتفعيل سياساته.
الإسرائيليون لا يكترثون لأي دولة في العالم سوى الولايات المتحدة، بينما الفلسطينيون لن ينتفعوا من أي "مناشدة" غير معززة بالقوة التي يهابها أعداؤهم، فما أكثر المناشدات لإسرائيل المطالبة بوقف إطلاق النار، ولكنها تقع دائما على آذان صماء، فالثأر من الأبرياء صار سيد الموقف.
بإمكان الاتحاد الأوروبي أن يستخدم قوة المال المؤثرة، كي يفعِّل مواقفَه، وهو يمتلك المال دون شك، فالناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي بلغ 17 ترليون دولار تقريبا عام 2022، وهذا يقترب من الناتج المحلي الإجمالي للصين، البالغ 18 ترليون، حسب منصة (ستاتِستا) للبيانات الاقتصادية الدولية.
ومنذ بدء الحرب في غزة، أخذ السياسيون الغربيون يرددون دون ملل أو كلل عبارة (من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها)! علما أن حق الدفاع عن النفس تمتلكه الشعوب التي أُحتِلَّت أراضيها، وليس الدول المحتلة للأراضي والمتحكمة بالسكان، وهذا ما أكده سفير فلسطين في الأمم المتحدة، إبراهيم محمد خريشة، قبل أيام. لا شك أن شعب غزة الأعزل سيبقى عرضة للأذى والدمار والقتل أمام قوة عسكرية لا تميز بين المدني والمقاتل، بل منعت حتى وصول الوقود إلى الأهالي، الأمر الذي أخرج المستشفيات من العمل وعرَّض المرضى والأطفال الرضع إلى الموت، بينما تجاوز عدد القتلى بين صفوف المدنيين سبعة آلاف، وهو في تزايد متسارع، وقد يتضاعف إن استمرت العمليات العسكرية طويلا، ومعظم الضحايا من النساء والأطفال والمرضى والشيوخ.
الرأي العام الغربي بدأ يتعاطف مع مأساة المدنيين في غزة، وبدأت الاحتجاجات والاستقالات تتوالى بسبب مواقف الحكومات الغربية المساندة لمواصلة إسرائيل قصف السكان المدنيين. في بريطانيا مثلا، تراجع زعيم حزب العمال المعارض، السير كيير ستارمر، عن تصريحه السابق الذي قال فيه إن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها، حتى بفرض الحصار على غزة، رغم أنه أضاف عبارة "ولكن يجب أن يكون تصرفها ضمن القانون الدولي".
لكن هذا التصريح، رغم التحفظ الوارد فيه، والمتعلق بالالتزام بالقانون الدولي، أثار غضب عدد كبير من أعضاء ونواب حزب العمال المساندين لقضية فلسطين، والمتعاطفين مع مأساة غزة، فاندلعت احتجاجات داخل الحزب، بين النواب وأعضاء الحكومات المحلية، واستقال ثلاثة وعشرون عضوا من أعضاء المجالس المحلية، وعندها، اضطر ستارمر للتخفيف من تأييده لإسرائيل، ولا شك أنه سيواجه معارضة متواصلة من التيار اليساري في حزبه، وكذلك من المسلمين الذين يؤيد معظمهم حزب العمال، ويقترب عددهم من أربعة ملايين، حسب بيانات المجلس الإسلامي البريطاني.
الاتحاد الأوروبي الذي أُنشِئ بدعم أميركي من أجل حفظ السلام في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، مازال مفككا وعاجزا عن تحقيق الوحدة الأوروبية المنشودة. هناك ثقافات ولغات مختلفة وأنظمة سياسية متباينة، وكل دولة لها تأريخ مختلف تتمسك به، وتخشى ضياع هويتِها عند الاندماج الكلي، وهذا ما دفع بريطانيا إلى الانسحاب من الاتحاد عام 2021.
صحيح أن الاتحاد قطع شوطا طويلا نحو الوحدة، خصوصا تبنيه العملة الموحدة، اليورو، وهذا دليل واضح على جدية المسعى، خصوصا بين الدول التي يتركز عليها الاتحاد وهي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، إضافة إلى بلجيكا وهولندا وأيرلندا والبرتغال. لكن سبعَ دولٍ أعضاء في الاتحاد لم تتبنَ اليورو حتى الآن، إما لأنها غير مؤهلة، أو لأنها رافضة، ما يعني أن الاتحاد مازال بعيدا عن الوحدة الاندماجية التي تجعله دولة قوية متماسكة.
مسيرة الاتحاد بطيئة جدا إذا ما قورنت بالأحداث العالمية المتسارعة، خصوصا الخطر الروسي، الذي يهدد أوروبا بالدرجة الأساس، ونمو قوة الصين الاقتصادية والعسكرية، ومحاولة العديد من الدول، مثل كوريا الشمالية وإيران، اكتساب القدرات النووية العسكرية التي يمكن أن تهدد السلم العالمي.
استغرقت الدول الأوروبية 45 عاما كي تُقِر اتفاقية ماستريخت عام 1993، التي تأسس بموجبها الاتحاد الأوروبي. ثم استغرقت المفاوضات ست سنوات أخرى من أجل إطلاق عملة اليورو عام 1999. ثم مرت عشر سنوات أخرى، كي يتوصل الأعضاء إلى اتفاقية لشبونة التي أقرت المجلس الأوروبي كهيئة تدير الاتحاد وتهيِّئ له الدوافع اللازمة للتطور، وتحدد أولوياته واتجاهاته السياسية، علما أن المجلس لا يمتلك صلاحيات تشريعية بموجب الاتفاقية.
مازالت دول الاتحاد تصر على الاحتفاظ بهويات وسياسات وطنية، فلا يمكنها أن تشكِّل الدولة القوية المتماسكة التي تحتاجها أوروبا بإلحاح في عالم مضطرب، وسوف تبقى بعيدة عن تشكيل الدولة التي يأمل الأوروبيون أن يكون لها شأن في السياسة الدولية. استمرار الوضع الحالي يهمّش دور الاتحاد الأوروبي عالميا، ويجعله مجرد تجمع لدول غير متجانسة وغير قادرة على التأثير في السياسة الدولية، رغم إمكانياتها الواسعة. دول الاتحاد متكئة حاليا على دعم الولايات المتحدة وحماية حلف الناتو، لكن هذا غير مضمون إنْ تغيرت السياسة الأميركية أو اندلعت مشاكل جديدة في العالم.
خلال السنوات الثلاث المنصرمة، اندلعت أربع أزمات عالمية خطيرة، هي جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا وتأزم العلاقات بين الصين وأميركا، والآن الحرب في غزة، يضاف إلى ذلك أزمة المناخ المتفاقمة. من المحتمل أن تندلع أزمات أخرى أو حروب، وحينها قد تضطر الولايات المتحدة للتخلي عن أوروبا. التباطؤ الأوروبي الحالي في السعي لتحقيق الوحدة، يهدد أمن أوروبا واستقرارها، وسوف يترك آثارا مدمرة على العالم أجمع.